أستطيع ولكن لا أريد

1166

“كتابه الرسائل، معناها أن يتجرد المرء أمام الأشباح. وهو ما تنتظره تلك الأشباح في شراهة. ولا تبلغ القبلات المكتوبة غايتها، ذلك أن الأشباح تشربها في الطريق”.

هكذا تحدث كافكا عن فعل كتابة الرسائل إلى محبوبته “ميلينا“، وأعتقد أنه لم يقصد كتابة الرسائل في حد ذاتها، ولكن كان يقصد لحظات المكاشفة بينهما على صورة كتابه أو كلام من القلب. كثيرًا ما أتخيل الكلمات تسير متعجرفة داخل كل خلايا جسدك المرهقة، متباهية بتحررها أخيرًا من فمك، لتنطلق في الفراغ الشاسع، بينما الحقيقة كونها تهوي كفريسة لرد فعل هذا الكائن المقابل لجسدك، وتعقيبه على تلك الكلمات، والذي عادة ما كان شخصًا تحبه، بما يجعله أهلاً من الأساس لهذه المكاشفة وهذه الكلمات الحقيقية المحملة بصدئك الفكري وآلامك وطموحاتك المعلقة لغدٍ أفضل.

عادة ما كان التحدث هو أرهق الأفعال الإنسانية وأكثرها التواءً، فهو صادق حد تعنيف الذات، ويحتاج إلى شجاعة كبيرة ليخرج منك، وشجاعة إضافية لتتلقى رد فعل هذا الآخر وتحمل نتيجة كونه غير مبالٍ، أو ربما ليس على نفس وتيرة حماستك. ولكوننا نعلم أن الحب ما هو إلا فعل مكاشفة، فعليه، أرى أن فعل الحب بحد ذاته لهو من أرهق الأفعال التي تتعلق قلوبنا بها، مما يجعلنا ساديين بعض الشيء نحو أنفسنا، برغبتنا في أن نحب. ربما ليس من الصحيح أن نمتثل لتوعية “The Beatles” بأغنيتهم التي تؤكد أن “All You Need Is Love، Love is all you need“.

منذ الصغر وأنا أراقب عن كثب وترقب رحلتي مع الرجل بصوره المختلفة بحياتي، ومدى قربه وتأثيره على كياني نفسيًا وجسديًا، كأب وأخ وصديق وحبيب، بينما تتشكل صورة واضحة عن صفاته المحببة، وصفاته الأخرى التي لا أطيق معاشرته عليها، كأي شخص آخر متنزهًا عن تكوينه التشريحي كرجل، فبالمثل تتكون صور عن أصدقائي المقربين ومن علينا الاكتفاء معهم بالإيماءات، مكتفين بلقب “معارف”، ولكن أبعد ما يكونوا عن الأصدقاء.

بعد فترة الطفولة وتخلُّصي من نظرتي المُبالغ بها لقدرات والدي الخارقة، وفعل المعجزات لحمايتي وتلبية رغباتي، وتفهمي ورؤيتي له كرجل طبيعي بقدرات إنسانية يشوبها بعض العيوب الشخصية الواضحة والإنسانية بحقيقة الأمر، ليتحول الرجل بحياتي إلى شريك رحلة، وليس درع دفاع وحماية وتفهم مطلق وحنو إلى ما لا نهاية، فقد كان هذا دور أبي، وأنا لا أحبذ تداخل الأدوار.

انتقلت لمراهقتي، ومن بعدها سنوات شبابي الأولى، لأعيش لحظات المكاشفة ومراجعة الذات، في محاولة لتحليل مواقف مررت بها والحكم عليها من بعيد، لتحديد بأيها كنت على صواب وأيها كان يحتاج لبعض الرتوش، وهذا كان إنسانيًا أيضًا، ولكن الذي واجهته بالجهة الأخرى من العالم هو توقف عقول البعض عند مراحل منفصلة، مما يحيل متابعة الرحلة معهم مستحيلة ومرهقة إلى أبعد حد. ولكون الحياة مرهقة أيما إرهاق بحد ذاتها، يضحى أن نختار أحد هؤلاء المتوقفين بالزمن اختيارًا أكثر سادية من انتهاجنا للحب ذاته، كما ذكرنا سلفًا.

لتمر المزيد من السنوات، ونحتك في عملنا مع كل أنواع البشر، السوي منهم والأبعد ما يكون عن السواء، وتتكون شخصياتنا بتعقيدات خاصة وفريدة لكل منا على حدة، لنختاركم كرجال بحياتنا دون سواكم كرفقاء للرحلة. ولكن الحقيقة يا أصدقائي نحن الفتيات اللائي اعتدن الوحدة، نستطيع أن نحيا بدونكم، فقد فعلناها بالفعل وعشنا، كل ما هنالك أننا حقا لا نريد انتهاج الوحدة لوقت أطول، ووجدنا بكم فرصة لرفقة مريحة.

هذا بالضبط ما قالته Jennifer Aniston لصديقها في فيلم”Rumor has it“، بعد أن اعترفت بخطئها نحوه بشكل كامل، واعتذرت بكل الطرق الممكنة، لتخبره بأصدق كلمات المكاشفة، أنها لم تأتِ لبابه لتطلب منه أن يعود إليها، لأنها لا تستطيع الحياة من دونه، فالحقيقة أنها تستطيع الحياة من دونه، ولكن ببساطة، هي لا تريد أن تعيش بدونه.

قد يسمعها الطرف الآخر الغاضب بتباهٍ ويرد بغضب: “وهل أنا خادم دوره تلبية رغباتك لأبعد أو أقترب تبعًا لرغباتك فقط؟!”، وهذا نوع آخر من التأخر الإنساني، والذي كثيرًا ما نلقاه في الحياة، بأن يتمسك أحد الطرفين بصورة محددة عن الشخص الآخر، ويبرر كل تصرفات هذا الآخر تبعًا للصورة التي اختارها هو في الأساس دون مناقشة للطرف الآخر. وهذا ظلم بيِّن صدقني أيها الآخر، فنحن البشر نتغير ونتطور وتخبو مشاعرنا وتشتغل مرة أخرى، وعليه يصير هذا التفكير الإلكتروني غير صالح إلا لروبوت، والروبوتات لا يمكن أن تقاسمك حياتك (حتى الآن على الأقل!).

***

إلى “جينيفر” صديقتي الغالية.. أريدك أن لا تقلقي وتختنقي مكبلة بشعور الغربة، وكونك غير مفهومة، بالأخص من أقرب الناس لك، فأنا أفهمك جيدًا وأعلم المجهود المبذول لتكوني بهذه الشفافية والوضوح، وتكاشفيه بواقع مشاعرك واحتياجك الحقيقي، والمحرك الأساسي لكونك اخترتِ البقاء معه هو دون سواه.

فجميعنا نستطيع أن نكون وحيدات يا صديقتي، فقد كنا لوقت طويل بالفعل، ونعلم ما نفعله بالتحديد لنسري عن أنفسنا هذه الوحدة، فقط نتخلى عن هذه الفكرة أحيانًا من أجل شخص ما بعينه، وتظل كل أمانينا على طول الخط أن يعلم هذا الشخص كونه بهذا التميز، بينما تكون أمنيتنا الأكبر أن لا نندم على تمييز هذا الشخص دون سواه.

 

المقالة السابقةطوق نجاة
المقالة القادمةإلى ابنتي

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا