صيف سعيد بدون اختيارات

837

منذ ٣٠ عامًا كنت أنتظر الصيف، عكس الآن، لا أحب حتى سيرته. بعد كل هذه السنوات، أحاول استعادة ذكرياتي القديمة عن الصيف الجميل الذي كنت أحبه:

ملف المستقبل ورجل المستحيل

مع بداية الامتحانات كنت أدَّخر مصروفي كاملاً، حتى يصبح معي مبلغ كبير يقترب من ١٠ جنيهات، وفي آخر امتحان أذهب إلي المكتبة لأجمع ١٠ أعداد من رجل المستحيل وملف المستقبل. أضعها في صف طويل وأراجع نهاية العدد القديم، وأبدأ في العدد الجديد، لأكتشف كيف سيعود أدهم صبري للحياة، بعد كل بكائي السابق عليه.

ما زلت أحفظ ذلك الوقت بداخل ذاكرتي، كيف كانت السعادة بسيطة وممكنة. كنت أطلب من أمي كوب شاي بلبن وأوارب الشباك لتظلم الغرفة قليلاً، لكنه ظلام يسمح بالقراءة، وأنام على السرير بجوار كنزي الصغير، لا أعلم تحديدًا، لكني أثق أن هناك سرًّا ما في الشيش الموارب. ما زلت حتى الآن كلما أردت بعض لحظات السعادة الصغيرة، أطفئ الأنوار وأوارب الشيش، وأبدأ في القراءة، لا أقول إنها نفس السعادة والراحة واللطف الذي كان يغمرني في صغري بمنزل أمي، لكنها استعادات لبعض لحظاتها التي تسربت ولم تعد هنا.

مكافأة اليوم الأخير من الامتحانات سلسلة كتب وشاي بلبن وفيلم وشيش موارب. هل للأمر علاقة بالرضا والقناعة فعلاً أم عدم وجود اختيارات أخرى، أم عدم معرفة الاختيارات الأخرى من الأساس؟

القناة التالتة

كنت أقرأ وأقرأ وأنا أشعر أن معي كنزًا لن ينتهي، وفي الاستراحات أدور بين قنوات التليفزيون الثلاثة، والأمر المثير أنني كنت أجد ما أحب أن أشاهده في واحدة من القنوات، فيلم “الدنيا على جناح يمامة”، أو “بطل من ورق”، وكانت سعادتي الكبرى عندما أجد فيلم “شحاتة أبو كف” أو “غريب في بيتي”.

أتمدد أمام الفيلم وبجواري الكتب، ولم أكن أرغب في أي شيء آخر. كيف يمكن أن تكون الحياة بهذه البساطة، مكافأة اليوم الأخير من الامتحانات سلسلة كتب وشاي بلبن وفيلم وشيش موارب. هل للأمر علاقة بالرضا والقناعة فعلاً أم عدم وجود اختيارات أخرى، أم عدم معرفة الاختيارات الأخرى من الأساس؟

مصيف بدون أكوا بارك

تقول لي ابنتي الكبيرة ١٣ عامًا “عاوزة أصيف في المالديف”. هل المشكلة في ابنتي أم في المعرفة التي لم تكن متاحة لي؟ لم أكن أعرف الأماكن البعيدة سوى من الكتب، وكانت دائمًا بعيدة جدًا، بعيدة بحيث لا أفكر أنني يمكن أن أكون هناك، ولا أحد أعرفه يمكن أن يكون هناك. ربما تلاشت سعادتي مع المعرفة. المعرفة تؤكد عدم القدرة، وعدم القدرة يرسخ الشعور بانعدام الرضا.

أفكر حاليًا في كل الأماكن التي لم أزرها وأتمنى زياراتها، وعندما أبحث في أسعار التذاكر والأوتيلات أشعر بإحباط، بينما قديمًا في الصيف لا أفكر سوى في الإسكندرية، بورسعيد، الإسماعيلية. رحلة مع العائلة في شقة واحدة تجمعنا، في مكان به رمال وبحر وكفى. بينما الآن ترغب بناتي في مكان به بحر نظيف برمال ناعمة، وبسين كبير وآخر صغير، أوبن بوفيه وأكوا بارك للكبار والصغار، ولا يقل عن ٤ نجوم.

بعد التجربة لن يعجبهن أقل من ذلك أبدًا، لا يرضين إلا بكامل تلك الشروط. أعود مجددًا لأفكر، هل سبب السعادة والرضا اللذين كنت أشعر بهما، هو عدم المعرفة؟ بشكل شخصي ما زلت أستمتع حتى الآن بكومة الكتب بجوار السرير، وأكواب الشاي بلبن والأفلام القديمة، لكنها متعة سريعًا ما تزول، ليست مثل متعتي الطفولية القديمة، حتى أنني أتساءل: هل أنا أستمتع فعلاً أم مجرد أستعيد ذكريات الاستمتاع؟

أعمال فنية في برامج الأطفال الصباحية

كنت أنتهي من القصص العشر في أقل من يومين، لأبدأ البحث عن أشياء جديدة تسلي وحدتي. كنت طفلة وحيدة بلا أشقاء، بلا مشاجرات أو صراعات على الألعاب والملابس أو قنوات التليفزيون، كانت الحياة هادئة تمامًا، تشجع على الأنشطة الفردية، وكانت الأشغال اليدوية جزءًا كبيرًا من تسليتي ومتعتي الصيفية. أجمع في صندوق كبير كل ما كنت أصادفه وأظنه جميلاً، أزرار ملونة، بقايا خيوط وأقمشة، وردات مستقطعة من ملابس وتوك شعر، مسبحة انفرطت صدفة، شرائط وأوراق لف الهدايا، لأبدأ في البحث عما يمكن عمله بهذه الأشياء في كتب المشغولات اليدوية أو برامج الأطفال الصباحية.

لم يكن هناك يوتيوب أو بينتريست أو كل هذه التطبيقات التي تتيح التعرف على أفكار الأشغال اليدوية، أو حتى تقليدها، لذلك كنت أستخدم خيالي مع الأدوات المتاحة لصنع كنوز أخرى صغيرة، كروت حب لأمي، نوتات صغيرة أدوِّن فيها أسراري وأفكاري وأمنياتي، أو هدايا للصديقات. أشياء كثيرة ربما لا تحمل قيمة فعلية سوى وقت الاستمتاع أثناء صنعها، والأحلام الكبرى التي كانت تدور في رأسي وقتها.

الكاسيت وموسيقى ما قبل الـyoutube

كل الأغاني متاحة، مئات، بل ملايين الأغاني والتراكات من كل الثقافات واللغات، لكنني أجد صعوبة شديدة في الوصول لأغنية أو موسيقى تلائم مزاجي

في مرحلة لاحقة أصبحت أنتظر الصيف، لأن كل الألبومات والأغاني الجديدة تصدر في الصيف، وأتساءل بيني وبين نفسي: هل الحصول على الأشياء بسهولة يفقدها قيمتها؟ أستعيد ألبومات عمرو دياب التي كنت أدَّخر من أجلها هي الأخرى، وألبومات توب 10، ومنير وفارس وعامر منيب، وهشام عباس، التي كنت أذهب لشرائها فور صدورها من أكشاك شرائط الكاسيت بشارع البطل أحمد عبد العزيز. أتذكر كيف أضع الشريط في الكاسيت ولا أخرجه لأيام طويلة، وكيف كانت سعادتي عندما اشترت أمي كاسيت جديدًا لا نحتاج فيه لقلب الشريط، لكنه يفعل ذلك بشكل أوتوماتيكي، فأصبح الشريط بالفعل لا يتوقف بداخل الكاسيت في دائرة لا نهائية من المتعة.

الآن أصبحت كل الأغاني متاحة، مئات، بل ملايين الأغاني والتراكات من كل الثقافات واللغات، لكنني أجد صعوبة شديدة في الوصول لأغنية أو موسيقى تلائم مزاجي ورغبتي، بينما قديمًا كنت أستمع إلى 12 أغنية دون تغيير لفترات طويلة، بسعادة بالغة، دون رغبة في التغيير، وهنا أفكر مرة أخرى: هل المعرفة سبب السعادة أم سبب الشقاء، والأفكار التي لا تتوقف عن الاحتمالات البعيدة للسعادة؟


ماذا لو…

يقول آلان دوبوتون في كتابه عزاءات الفلسفة “لا شيء سيرضي الإنسان الذي لا يقنع بالقليل. ولتجنب امتلاك ما لا نحتاج إليه، أو الندم على ما نعجز عن تأمينه، لا بد لنا أن نتساءل بصرامة في اللحظة التي نتوق فيها إلى امتلاك شيء باهظ الثمن، ما إذا كنا محقين بفعل هذا. وينبغي أن نبدأ بسلسلة من التجارب الفكرية التي نتخيل أنفسنا فيها وقد أصبحنا في اللحظة التي ستتحقق فيها رغباتنا، وذلك بهدف تخمين الدرجة التي ستكون عليها سعادتنا المحتملة: يجب تطبيق منهج التساؤل الآتي على جميع الرغبات: ما الذي سيحدث لي لو تحقق ما كنت أرغب به؟ وما الذي سيحدث لو لم يتحقق؟

بهذا التساؤل البسيط ظاهريًا، شديد التعقيد ظاهريًا أحاول الآن أن أعيش حياة أكثر بساطة دون كل الرغبات التي لا تتوقف، في عالم شديد الاستهلاكية. ما زلت أبحث عن لحظات صغيرة أجد فيها عزاءات كبيرة.

المقالة السابقةحكاية 3 بنات ملهمات
المقالة القادمة“فهرية”: كل أم امرأة جميلة

1 تعليق

  1. شكرا على المقال الرائع ..كانك تتحدثين عن طفولتنا جميعا.. كانت كلها رضا وسعاده ..بخلاف طفولة اولادنا

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا