وكأنها ضربت حجرًا ضخمًا فى بحيرة راكدة.. كان ذلك ما فعلته حملة السخرية والنقد للممثلة التركية الشهيرة “فهرية أفنجين”، لزيادة وزنها بشكل حاد عقب ولادة طفلها. فقد أظهرت تعليقات الحملة، وأنه ما زال حتى الآن، هناك من يحكم على المرأة بشكلها الخارجى، ويضعه في المرتبة الأولى، ثم تأتي أي مقومات أخرى، مثل العلم أو الموهبة فى النهاية. فرغم موهبة “فهرية” الفنية والغنائية، فإن كل ذلك تم تناسيه مرة واحدة، ليتم التركيز على وزنها وجلدها، بمنتهى القسوة على الإفراط فيه. وكأنها ليست إنسانًا من لحم ودم، بل دمية ماريونيت يجب أن تتسم بسمات شكلية وجمالية معينة، وإلا فقدت كل مواهبها، حتى لو كانت أمًا عظيمة، وممثلة رائعة.
كل أم امرأة جميلة
شاهدت أول مرة “فهرية” في مسلسل تاريخي اسمه “طائر النمنمة”، وقد حقق صدى واسعًا في تركيا، بسبب تمثيلها الواقعى. وفي فترة وجيزة حققت شهرة واسعة، كان أحد أسبابها اختياراتها الفنية المتنوعة، وجمالها الرقيق، بعد أن اختيرت ضمن قائمة أجمل 30 امرأة على مستوى العالم. ولكن هناك سبب آخر، هو زواجها من الممثل التركي الشهير “بوراك أوزجيتف”، الذي ظهر معها في مسلسل “طائر النمنمة” ثم فيلم “العشق يشبهك”.
ومؤخرًا تداولت وسائل الإعلام أحدث صورة لـ”فهرية” بعد ولادة ابنها “كاران” في أبريل الماضى، في مطار تركيا بصحبة زوجها، ولكنها لم تكن الممثلة الجميلة التي عشقها البعض بسبب رقتها، أو لكونها الوجه الإعلاني لبعض الحملات الصحية، أو الكثير من المنتجات ومستحضرات التجميل، بل كانت أمًا عادية ترتدي “تي شيرت” رمادي اللون، وبنطلونًا جينزًا. وزنها مضاعف بسبب تأثير الحمل والولادة والرضاعة عليها.
منذ ذلك الحين، وانقلبت حال “السوشيال ميديا” عليها، ما بين السخرية والنقد والهجوم، ولم يتوقف الأمر عند حد المجتمع التركي، بل تخطى الأمر إلى تحوله إلى “تريند” عالمي، شارك فيه الكثيرون، وبالطبع كان للعرب نصيب، ممن رأوا أن المرأة بعد الحمل والولادة تفقد جمالها الشكلي مع الكثير من مصممة الشفاه والرثاء.
وكان ظهور “هاشتاج” من بعض الممثلات الأتراك ووسائل الإعلام تحت اسم”فهرية جميلة جد” هو أحد الردود على حملات التنمر، أما فهرية فلم ترد سوى بجملة واحدة “كل أم.. امرأة جميلة جدًا”، وكأنها تؤكد أن الأمومة جزء من الأنوثة وجمال المرأة، ولا ينفصلان.
مَن وَضع معايير الجمال؟!
يرن السؤال مثل عقارب الساعة يمينًا ويسارًا، ولكنه بلا إجابة، حول تلك المشاعر المحمومة بشأن جمال المرأة، والتي ترى أن هناك كتالوجًا ثابتًا لجمال المرأة الشكلي والجسدي، يجب أن تتسم بها، وإلا نالت هجومًا ساحقًا أو إهمالاً يقتل مشاعرها، حتى لو كان الأمر متعلقًا بإعطاء الحياة لكائن آخر، وما يستلزمه ذلك من جهد وطاقة، أحيانًا لا يتحملها أعتى الرجال.
لا يقتصر الأمر بالطبع على المجتمع العربي، ولكنه يزيد فيه مقارنة بالمجتمع الغربي، بسبب عوامل مختلفة أهمها انتشار الأمية والتقاليد البالية، وثقافة تقييم المرأة على أساس الشكل. والأهم غياب التوعية والفهم الصحيح للتغييرات التي تصيب جسد المرأة، بعد تجرية الحمل والولادة، وأنها رغم كل شيء في النهاية مرحلة مؤقتة، مرتبطة بنمو الطفل.
وحالة “فهرية” ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة، فقد سبقتها الكثير من النجمات ومشاهير العالم، اللاتي يفاجأ بهن المجتمع بعد تجربة الحمل والولادة، وبتغير مظهرهن سواء في الوزن الزائد، في جمالهن الخارجي، أو حتى اهتمامهن بشكل
ملابسهن، مما يؤكد أن الأمر ليس له علاقة بمستوى اجتماعي، اقتصادي أو حتى ثقافي معين. فمفهوم الأم ومستلزماته كدور اجتماعي واحد مهما اختلف المكان أو الزمان.
تظهر في الأفق نجمات غناء مثل “شاكيرا” التي ظهرت على الشاطئ، بلا أي ميك آب، بملابس قد توصف بأنها أقل من العادية، بينما تغير ملابس أطفالها. وكذلك “بيونسيه” التي زاد وزنها كثيرًا خلال فترة الولادة، ونجمة تليفزيون الواقع “كيم كارداشيان”. ولم تسلم حتى نساء العائلة المالكة في بريطانيا، مثل”ميجان ميركل” زوجة الأمير هاري، التي بالرغم من الرفاهية والرعاية التي تحظى بها، إلا أن ذلك لم يمنع تغيير شكلها بعد الولادة، لتظهر في أول صورة لها وهي تحمل ابنها “أرشي” بوزن زائد في منطقة البطن. كذلك سبقتها الدوقة كيت ميدلتون في التعرض لنفس الأمر.
وعند النظر إلى تعامل المجتمع الغربي مع هؤلاء النجمات، نجد الاحتفاء الشديد بهن، ومهاجمة أي محاولة للنيل منهن سواء بالتجريح أو التنمر، بل وتشجيع بقية النجمات على أن تسلك هذا الأمر، باعتباره شيئًا طبيعيًا، في تشجيع واضح لبقية نساء المجتمع، على أن يتقبلن أنفسهن، وهو ما يظهر مدى غياب الثقافة والتوعية في المجتمع العربي، حيث كانت السخرية والنقد هما رد فعل البعض، على مواقع التواصل الاجتماعي.
فهرية.. نحن نشعر بك
هل تألمت فهرية؟ نعم، أعرف الإجابة لأنني مررت بنفس التجربة، فقد زاد وزني 22 كيلوجرامًا عقب تجربة الحمل والولادة، ولم أسلم يومًا من التعليقات التي تسخر من وزني الزائد، أو ترهل عضلات ذراعي وبطني، أو عدم اهتمامي بجمالي وملابسي، سواء من أصدقاء أو أقارب.
في البداية لم أكن أهتم حقًا، فقد كان كل اهتمامي مُنصبًّا على رعاية طفلي، ثم بدأت ألتفت إلى الرسائل السلبية الخفية التي تصل لي، ولمن في نفس وضعي من قريباتي، والتي تتلخص في أنني لم أعد جديرة بلقب امرأة، وأن أنوثتي انتهت.
بدلاً من تقديم كل الدعم والقبول للمرأة، بدلاً من أن نساعدها على رعاية صغيرها، نحن نجلدها هي وغيرها، ونعزز الصورة السلبية لها عن نفسها، بكلمات سلبية
للأسف، لا يعلم البعض أن الحمل والولادة من أصعب تجارب الحياة التي قد يمر بها بشر على وجه الأرض، والمرأة لا تخاطر فيه بجسدها فقط، بل بصحتها ومشاعرها ونفسيتها، أي بكل ما تملك، تضع كل ذلك رهن وليدها، لكي ينمو بصحة جسمانية ونفسية سليمة، دون أن تطلب شيئًا في المقابل.
وحتى زيادة الوزن التي تتعرض للسخرية بسببها، أحيانًا لا تكون باختيارها، بل أمر مجبرة عليه، بسبب تغير هرمونات الجسم، مرورًا بمرحلة الرضاعة الطبيعية ومتطلباتها، وحتى انقضاء فترة التعافي التي يجب أن تحصل فيها على التغذية الجيدة، لاسترداد عافيتها وصحتها قبل البدء في ريجيم إنقاص الوزن.
وفي المقابل.. وبدلاً من تقديم كل الدعم والقبول للمرأة، بدلاً من أن نساعدها على رعاية صغيرها، نحن نجلدها هي وغيرها، ونعزز الصورة السلبية لها عن نفسها، بكلمات لا يمكن وصفها سوى بأنها قاتلة مثل “خلاص راحت عليها”، “داسها القطر وعدى”. والنتيجة جرعات صافية من الاكتئاب، وأحيانًا العصبية والعنف تجاه صغيرها، أو النقمة على نفسها وعلى المجتمع، لنظل ندور في تلك الحلقة المفرغة بلا أي نهاية.
الأمومة جزء من الأنوثة
حقيقة لا يدركها البعض، فالأنوثة ليست مجرد شكل خارجي جذاب، أو صوت رقيق ناعم وحركات جميلة ملفتة، بل كيان يحتوي المرأة بكل أدوارها وصفاتها، وجزء من هذه الأدوار ببساطة الأمومة. فنحن في حاجة إلى نشر التوعية الصحية والثقافة العامة لقبول المرأة بكل حالاتها وأدوارها، ومنها تجربة الحمل والولادة، أو ما يطلق عليه إجمالاً مفهوم الأمومة، وما يتسبب فيه هذا الدور من تغيرات جسدية ونفسية، وأن ذلك ليس معناه ضياع أنوثتها أو جمالها، على العكس، فقد يكون سرًّا من أسرار جمالها. ونشر تلك الثقافة ليس فقط دعمًا للمرأة في أهم مراحل حياتها، وكأننا نقول لها “نحن معك لا تخافي”، بل مساعدة للمجتمع ككل، فتقديم طفل صحي جسديًا ونفسيًا، هو أساس نمو المجتمع وتقدمه.