الامتنان: سلاحي الذي حاربت به الاكتئاب

849

“الامتنان عاطفة تُعزز العلاقات، لأنها تتطلب أن نرى كيف تم دعمنا من قِبَل أشخاص آخرين” – روبرت إيمونز (أحد أشهر العلماء الباحثين بمجال الامتنان)

قبل عام ونصف

في إحدى عيادات الطب النفسي، وبينما أجلس أمام طبيبتي أشكو لها من علاقة ما تضغط على روحي، فإذا بها تُخبرني عن طريقة فَعَّالة كعلاج لم أسمع عنها من قبل، العلاج عن طريق ممارسة الامتنان. تطلب مني أن أُسجِّل يوميًا -في دفتر خاص بالامتنان- ثلاثة أسباب تجعلني ممتنة لوجود تلك العلاقة وذلك الإنسان في حياتي، مؤكدةً أن الامتنان من شأنه أن يقوّي العلاقات ويُعزز التسامح، مع التشديد على أن يحدث ذلك كتابةً وليس بالاكتفاء بالتفكير فيه ذهنيًا.

وبمَدّ الخط على استقامته تنصحني بممارسة الشيء نفسه بحياتي، أن أبحث وأُدقق لتبدأ عيني في التقاط الإيجابيات، عوضًا عن السلبيات التي اعتدت استنشاقها مع كل نَفَس، كَوني شخصًا أميل للتشاؤم. علمًا بأن الأشياء التي سيقع عليها اختياري كي أمتن لها، ليس عليها أن تكون كبيرة بالضرورة، بل إنها قد تكون بغاية الصغر.

على سبيل المثال: أن أكون ممتنة لأنني استطعت شُرب قهوتي ساخنة، أو لأنني لم أحلم بأي كوابيس اليوم، أو حتى لأنني نجحت في أخذ حمام دافئ دون أن يطرق أحدهم الباب ليسألني متى سأنتهي؟ بالفعل أبدأ تنفيذ ما قالته ولكن لأيام معدودة، أشعر خلالها بثِقَل الأمر على قلبي، وصعوبة أن أرى النور وسط ضباب الاكتئاب الذي يُحيط بي.. فأتوقف.

يمكن للامتنان أن يُحوِّل الأيام العادية إلى أعياد، والأعمال الروتينية إلى بهجة، والفُرَص إلى معجزات وبركات” – ويليام آرثر وارد (كاتب أمريكي)

قبل خمسة أشهر

مع نهاية العام الماضي، وبينما الجميع يستعرضون على منصات التواصل الاجتماعي إنجازاتهم التي انتهوا منها لتَوّهم وأحلامهم الجديدة، قرأت بالصدفة منشورًا لصديقة تتحدث عن تجربتها مع الامتنان، الذي جرَّبته يوميًا لمدة عام كامل، قبل أن تُقرر مُشاركتنا الامتنانات الأقرب لقلبها، وهنا تذكرت ما أخبرتني به الطبيبة بوقت سابق.

فكرت أن أُعيد المحاولة ولكن بمثابرة أكثر هذه المرة، ولضمان مزيد من الالتزام قررت ممارسة ذلك الفِعل من خلال ألبوم صور على فيسبوك، بحيث أستطيع العودة للصور في أي وقت، أو أن أراها يومًا ما في الـMemories فأبتسم، أما الفكرة التي أثارت حماسي أكثر، فكانت أن تتسبب تلك التجربة في تشجيع آخرين على تكرار الفِعل نفسه، ليزيد العالم مُمتنًا جديدًا.

ومع مرور الأيام والتزامي بتدوين امتناناتي، صِرت أكثر قدرة على رؤية الخير، وتمييز ما هو إيجابي خلال اليوم بمجرد حدوثه، بل وأكثر رضا وشكرًا لله. أمتن لنقاط النور الصغيرة والمتناثرة من حولي طوال الوقت هنا وهناك، رسالة أرسلتها لي ابنتي على الواتساب، وجبة شهية حضَّرتها لي صديقة، فيلم ممتع شاهدته، حتى إصابتي بالكورونا استطعت أن أرى خلال محنتها المنحة التي مَنّ بها الله عليّ.

وهو ما يتوافق مع ما جاء ببعض الدراسات الأمريكية، التي أثبتت أن ممارسة الامتنان ذات تأثير قوي على كل من يمارسها، إذ تُغَيِّر المجال المغناطيسي وتُضاعف طاقة الدماغ الإيجابية من جهة، ومن جهة أخرى ترفع كفاءة الجهاز المناعي. الأمر الذي يترتَّب عليه زيادة نسبة النشاط والإنتاج والإبداع، مما يجعل الإنسان أكثر إقبالاً على الحياة، حتى أنه يجذب المزيد من الفُرص والنِعَم، عملاً بمبدأ “قانون الجذب” الذي يقول إن التفكير الإيجابي يجعل الحياة أفضل.

“عندما نركز على امتناننا، ستذهب خيبة الأمل بعيدًا ويتدفق الحب نحو الداخل” – كريستين أرمسترونج (درَّاجة أمريكية محترفة)

اقرأ أيضًا: علمني الامتنان

اليوم

في جلسة حديثة مع دكتورة نفسية أخرى ورحلة جديدة لاكتشاف الذات، تأخذني الطبيبة بعيدًا للطفولة، تتطرَّق للحديث عن الأهل، أبي وأمي، كيف أراهما، وكيف يرانني، ثم تسألني عن خِصالهما واحدًا تلو الآخر، فأُخبرها بعض الأمور، لكن ما يستوقفها حديثي الغاضب عن الانتقاد، قبل أن أُخبرها أن أكثر ما يُغضبني ليس مسألة أن يتم انتقادي ذاتها، وإنما لأنني ورثت تلك الخِصلة القبيحة.

وبقدر ما يُؤلمني فِعلي ذلك، فإن الأشد إزعاجًا أن يكون الانتقاد دومًا رد فِعلي الأسرع، أنظر إلى لوحة ناصعة البياض، فألمح نقطة سوداء أُشير إليها، تكتب لي ابنتي -ذات ثماني سنوات- خطابًا حنونًا ورومانسيًا فأُشير إلي خطأ إملائي، كما لو كنت صيّادًا لا تلتقط عيناه سوى نقاط الضعف ولا يُصيب سلاحه إلا العيوب والسلبيات، وهو ما زاده للأسف كوني شخصًا مُحبًا للكمال.

أسترسل بالحديث، وفي ظل نَقدي وجَلدي لذاتي أتذكر أنني لم أستسلم، وكيف ومتى بدأت سَلك طريق الشُغل على نفسي بكل ما أوتيت من وقت وقوة ومال، مُحاولةً أن أُحسِّن من نفسي، من أجل ابنتي قبل أي شيء آخر، ولرغبتي الخالصة في منحها قبولاً ومحبةً غير مشروطة. فلحُسن حظي كان الامتنان خير عون، إذ ساعدني على التخفيف من لذوعة الانتقاد، وجعلني أكثر جرأة وشجاعة على البوح بمشاعري الإيجابية وقَول الكلمات الطيبة.

“من خلال الامتنان للحظة الحالية فإن البعد الروحي للحياة يتوسع”- إيكهارت تول(كاتب ألماني)

لن أكذب وأدَّعي أنني صِرت قادرة على عدم الانتقاد كُليًا، لكنني أصبحت ما أن أتفوه بجملة انتقاد واحدة، أُنَبِّه نفسي فورًا وذاتيًا، فأتوقف على الفور، ومن ثَمَّ أبدأ في سرد الإيجابيات والإشادة بما بُذِل من مجهود. فالتقدير والامتنان، هما تلك العُملة التي يُمكننا أن نصنعها بأنفسنا ونُقدمها للآخرين، فلا تُفلِس قلوبنا من المحبة أبدًا، وكلمة السر التي تفتح أمامنا الأبواب المُغلقة.. أبواب الإبداع والحكمة والشكر للطف الله الخفي، وبالتالي ليس هناك أفضل من أن نُعيد تدويرهما بين مَن نعرفهم وعلى الملأ، لتوسيع دائرة المحبة، والدفع بالإنسانية ولو خطوة واحدة للأمام.

اقرأ أيضًا: عادات الناجحين: 10 خطوات يومية لحياة أفضل

المقالة السابقةحبيب العمر
المقالة القادمةعلمني الامتنان
امرأة ثلاثينية متقلبة المزاج، أعشق الرقص على السطور كتابةً، أُحب الفن بمختلف أنواعه وأعيش عليه. والآن كبرت وصار عليّ أن ألعب في الحياة عشرات الأدوار طوال الوقت، لأستيقظ كل صباح أُعافر حتى أستطيع أن أُحاكي بهلوانات السيرك فأرمي الكُرات المُلونة بالهواء ثم ألتقطها كلها في آنٍ واحد.

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا