نشأت في منزل عائلي كل ذويه من الذكور، وأنا فتاته الوحيدة، لعبت سنواتي الأولى مع أبناء عمي وأصدقاء الشارع الذين كانوا ذكورًا بالتبعية، وكانت الألعاب ليست بالأنوثة المتعارف عليها، فلم أسهر على ترتيب جلسات شاي لعرائسي البلاستيكية ولم أتذكر فرحتي ولهفتي لأمتلك عروسًا من الأساس.
منذ الصغر أحببت الحركة والمطاردات، وشعور الانتصار التي تكسباني إياه، وذلك لم يسبب أي خوف لعائلتي، ولكن أتذكر كوني اقتبست بعضًا من أفعال البنات وأفكارهن بكل زيارة لبنات خالتي ومتابعة علاقة خالتي ببناتها وعلاقاتهن بعضهن ببعض، فأعرف ما هو متوقع مني وما هو غير متوقع، وعليه خزَّنه عقلي لحين أشعر برغبة في إبهار أحدهم بكوني فتاة.
عشت بهذه الكيفية، أفكر ذكوريًا وأفعل ما هو أنثويًا عند الحاجة فقط، أو هكذا اعتقدت، بينما كانت لي صديقة من بنات الجيران، وكانت لهذه الفتاة وجهات نظر خاصة دومًا ما كانت تنتقدها والدتي إن مرت بجلستنا معًا، وتشدد عليَّ عدم انتهاجي لنفس الفعل. لكن كطفلة تنبهر بالجديد كانت أفعالها ملفتة، وبينما أنا مدمنة على الأسئلة عن الدوافع والرغبات الخفية خلف الأفعال، فقد وجدت في هذه الجارة ضالتي. كانت دوافعها مقنعة، كانت فتاة حرة وجميلة، تهتم لذاتها كثيرًا، تضحك بصوت عالٍ وتعبر عن وجهة نظرها بتحدٍ وقوة، وكنت أحب بها هذا التحدي للحياة دون الرضوخ للصورة النمطية عن الفتاة. فقد كانت ساعاتنا معًا قيمة مضافة لتجربتي الحياتية، وليست مجرد وقت أقضيه.
كان هذا حتى جاء اليوم المشؤوم، عندما سمعت صرخات قادمة من منزلها، لتخبرني عمتي بسعادة أن قد تم ما كان لا بد أن يتم! لقد قامت والدتها بختانها لتصون عرضها وتكبت زمامها، فالبنت تنذر بشخصية أقوى من اللازم. لم أكن أعرف ما الضير بأن يكون للشخص شخصية قوية! سألت والدتي عن ماهية العملية، وأخبرتني وهي تتابع امتعاض وجهي لما حدث.
منذ هذه اللحظة تولَّد بداخلي خوف كبير من أن تقرر والدتي أني أستحق هذا العقاب القوي الغادر، فأنا لا أتذكر أن أمها قد نهرتها في حضوري عن آليات تفكيرها هذه يومًا، لتعاقبها بهذه الكيفية.
انتظرت طويلاً حتى تعافت جارتي، وكنت أتلهف لرؤية ما تغير بسلوكها، بعد أن مارسوا عليها هذا السحر القبلي الذي يحكون عنه. فمن رواية عمتي كذلك أن لا بد للجزء المبتور أن يُلقى بالنيل أو البحر حتى يكون جرح الفتاة طيبًا وغير ملوث. وشددَت أن لا يُلقى بالمجاري، فهذا نذير شؤم كبير. الحقيقة أن ما تغير بها هو كسوة ملامحها بالحزن، والكسرة التي أخفتها خلف نظرات تحدٍّ، فقد طوَّعت كسرتها بأن صارت أكثر حدة وأكثر تعنُّتًا لرأيها، فقد كانت تخبرني دومًا أنها أُخِذَت غدرًا وأنها لن تسامحهم على فعلتهم هذه يومًا. وإن كانوا قد وصموها بما قد تفعله مستقبلاً، إذًا ستستحق هذا الوصم عن جدارة بعد أن تفعل كل ما يمكنها فعله”.
كانت نقاشاتنا في السنين التي تلت هذا الحدث تتلخص في نصيحتي لها كون الأمر يستحق الغضب، لكنها تعاقب نفسها معهم بأفعالها تلك، فهي من تجني ثمار أفعالها المتمردة وليس هم فقط. ولكنها أصرت أن تُسخِّر حياتها لكسر كل المعتقدات، وهكذا برمجت عقلها لفعل كل ما يؤذيهم. لم نستمر صديقتين لانشغال كل منا بطريقه الجديد، فبينما اختارت جارتي أن تهينهم أو ترد لهم إهانتهم بأن تضرب بكل قوانينهم عرض الحائط، ناسية في المقابل حقها هي نفسها بأن تعيش حياة سوية، تركتني أنا أعاني من خوف وضجر طوال الوقت من أن أصير الضحية التالية.
افترقنا بعد أن تركز بذهني كونهم عاقبوها بفعلتهم هذه لكونها أنثى أكثر من اللازم، تفعل أفعال البنات بشكل مبالغ فيه، وهذا نذير خوف، ولكني حاولت طمأنة نفسي أني بمأمن، فأنا أتدرب على أفعال البنات ولا أعتقد أني سأتمرَّس بها يومًا، ليصير الموضوع خطرًا لهذه الدرجة.
أتذكر نقاشات أمي المطوَّلة معي لأرتدي فستانًا بينما أرفض بشدة وأتمسك بارتداء البنطال. تطالبني بحدة أن أطلق غرة شعري للهواء وأسدل شعري الطويل على طول ظهري، بينما أصر أن أضفره متخلصة من أي نذير خوف من أن أصير أنثى لا قدر الله، وحينها يحدث بي ما حدث.
مرت طفولتي بينما كنت أصب كامل تركيزي على ألا أوصم بلقب أنثى، فحينها قد أنال عقابًا يرونني أستحقه. راقبت أفكاري عن كثب، وركزت كامل طاقتي بالمذاكرة والتفوق الدراسي إنجاحًا لنفسي وإرضاءً لذويَ هكذا، كنت أحاول جاهدة أن أنال لقب الفتاة الجيدة اللطيفة، وكانت صورة جارتي هي الشبح الذي أهرب منه بكامل قوتي، بينما لم يعلم أيهم هذه الحقيقة. تمر الأيام سريعًا ولم أعد مطالبة بأن أكون فتاة جيدة فقط، لكن صرت مطالبة بأن أكون أنثى. كان الأمر جد مخيف، فبعد تدريب حاد لعقلي بأن لا أكونها، كيف لي الآن أن أقترَّها من داخلي؟!
دومًا كان المجتمع كاتبًا لسيناريو سخيف ومبتذل وغير مقنع لعقلي عن “قصة حياة الفتاة المقبولة اجتماعيًا”، الذي يصدِّر لنا صورة الفتاة التي لا بد أن نكون عليها، لنكون مقبولات ومهذبات.
أرى دومًا أن الخط الدرامي للفتيات المصريات غير مقنع، وعليه صارت حياة الآلاف من البنات مجرد فيلم مبتذل مكرر وسخيف وغير محفِّز للمتابعة، فبعد مطالبتهن بطمس هويتهن الأنثوية لسنوات طوال، وصولاً للصورة المهذبة التي لا بد أن تكون عليها، تطالبن بعد رن جرس العشرينيات أن تتخلى عن كل هذا بين ليلة وضحاها، وتتزوج وتكون فتاة بكامل أنوثتها، تستطيع إرضاء نفسها وإرضاء زوجها، بليلة زفاف تستحق السرد.. حتى أفلام السبكي لن تكون بهذه البلاهة صدقني!
على ما يبدو أن يوم اختتنت جارتي، لم تكن هي الضحية الوحيدة التي تنزف بسكين الغدر هذه الليلة، فبينما نزفت جسديًا نزفتُ أنا نفسيًا لسنوات طوال بعدها، وبالتأكيد نجح سحرهم الأسود بأن يصنع منا شخصًا آخر غير ما كنا عليه قبل هذه الليلة المشؤومة.