يقولون إن العشب دائمًا أكثر نضرة وخضارًا على الجهة الأخرى، ولكن ما أن تطأه قدماك ستكتشف لاحقًا أن العشب سواء، باختلاف أماكنه ودرجات نضارته.. فالأرض واحدة، وإن اختلفت طرق الري.. هكذا هي حيوات الآخرين، وعلاقاتهم الشخصية وتفاصيل حياتهم اليومية.
جميعنا نبدو برَّاقين ولامعين ومثاليين، حتى نقترب من الكواليس. في الحقيقة لا أحد يعلم أبدًا ما يوجد خلف الأبواب المغلقة، قبل أن يتساءل “إشمعنى؟!” ويبدأ في مقارنة حاله بحال الغير.
(1)
الحب في زمن السوشيال ميديا
كم مرّة قارنت تفاصيل علاقتك الشخصية بما تراه وتسمعه على فيسبوك وإنستجرام؟ تلك الصورة الحميمية الرائعة لزوجين يبدوان في غاية السعادة والرومانسية، وذلك البوست المُذيب للقلوب والمشاعر من فرط عذوبته في الحكي عن علاقة عاطفية ولا أروع، وتلك الصديقة التي تجوب أنحاء العالم مع زوجها، والأخرى التي لا تفوِّت مناسبة لتصوير الهدايا الشخصية ورفعها ليشاهدها الجميع مع وصف دقيق للأحداث.
حتى أصبح عقلك يتعامل تلقائيًا بمقارنة هذه المواقف مع ما يحدث في علاقتك الشخصية.. لتبدأ المأساة، فالمقارنة الدائمة تولد السخط والغضب وعدم الرضا، وهو أول طريق للتعاسة في الحياة عمومًا، وفي علاقتك العاطفية خصوصًا.
فصار الاعتقاد السائد أن الجميع فاشلون في الحب، إذا لم يحبوا بالطريقة نفسها التي تقدمها المسلسلات الرومانسية وأفلام العلاقات الشخصية الحالمة.
ساعد على ذلك مؤخرًا انتشار نصائح للشباب المقبلين على الزواج أو الارتباط عبر السوشيال ميديا، بوضع كتالوج صفات شريك حياتك، ستجدون هذه النصائح تبدأ دائمً بـ”تزوجي من… وتزوج من…” مع سيل من الخطوات والأوصاف التي يجب أن تتوفر في الحبيب والحبيبة لإقامة علاقة عاطفية رومانسية رائعة، وما غيرها لا يصلح طبعًا، ولا يرتقي ليصنف تحت كلمة “علاقة حب”.
إذا لم يحضر لكِ الورد والشوكولاتة ويبعث رسالة الصباح الرومانسية لا تتزوجيه، إذا لم تشجع فريقك المفضل لا تتزوجها.. وهكذا من النصائح التي صنفت الجميع “استامب” واحد، وكأن لدينا جميعًا نفس التفضيلات والاهتمامات والأذواق والطباع!
والغريب أن هذا الهراء يجد من يروِّج له ويتبناه بشدة وتعصب. شخصيًا أعرف إناسًا أنهوا علاقاتهم الشخصية بناء على تلك النصائح، لأن بحسابات مشاهير العلاقات على فيسبوك فشريك حياتهم قد رسب في اختبار الرومانسية ومدى قوة حُبه!
فعلاً.. هكذا بمنتهى البساطة نعطل عقلنا وإحساسنا بأيدينا، ونشغل الإنسان الآلي بداخلنا، ليبدأ بالتحكم بعلاقاتنا بمقارنتها مع كتالوج الحب المثالي من وجهة نظر البعض. لا يهم إن كانت عدم مثاليتنا تلك تناسبنا أكثر، لا يهم إن كان بيننا الكثير من الطباع والصفات والتفّهم والسكن، لا يهم إن كنا قطعنا شوطًا في علاقتنا بالفعل ومررنا بمرحلة الحب الملتهب ورسائل الصباح والرومانسيات الحالمة لما هو أعمق وأكثر جذورًا في أرض علاقتنا.. المهم هو أن نحصل على الدرجة النهائية للعلاقات المثالية عندما نقارنها بنموذج علاقات الحب على السوشيال ميديا.
لا يدرك من يقوم بذلك فداحة فعلته إلا بعدما يغلق شاشات عالمه الافتراضي، ليجد أن عالمه الحقيقي لم يعد موجودًا الآن.
(2)
حقيقة ما وراء الكواليس
تقول أمي دائمًا “البيوت أسرار مقفولة على أصحابها”، لم أدرك مدى حقيقة هذه الجملة إلا عندما كبرت وصار لديَّ بيت، وصرت أدخل بيوتًا كثيرة لا تبدو كما يظهر أصحابها من الخارج. رأيت كيف تكون المقارنات هي آفة تلك البيوت. الآفة التي تأكل العلاقات في صمت وتدمر الأساس والجذور خصوصًا الهش منهما.
صُدمت، وما زلت أُصدم في حقيقة بعض العلاقات من حولي، من ظننتهم في علاقة مثالية براقة صارخة المشاعر لا تشوبها شائبة، كانت أكثر العلاقات هشاشة منتهية بالانفصال الحاد، ومن ظننتهم ليسوا على وفاق ولا يعبرون عن حبهم بالحميمية المطلوبة أو المتعارف عليها في زماننا، كانوا الأكثر اتزانًا ومودة وسكينة. وحينها فقط تعلمت شخصيًا ألا أقارن العلاقات التي أراها بعضها ببعض، وبالطبع ألا أضع علاقتي موضع مقارنة أبدًا مع أيٍّ كان، لأنني لن أعرف أبدًا ما يحدث خلف الأبواب المغلقة على أصحابها، ولا أرغب في ذلك حقًا.
وإذا كان ولا بد من مقارنة، فالأفضل أن تكون مقارنة تطور علاقتنا للأفضل بما كانت عليه سابقًا.. إذا كان لا بد أن ننشغل بشيء حقًا فليكن أنفسنا وليس الآخرين.
(3)
حالة خاصة
في بداية تعلمي للقيادة كنت أقارن أدائي دائمًا بأداء من حولي، حتى أخبرتني معلمتي مرة في نهاية حصص التعلم “ركزي في طريقك وبس. متقارنيش. كل واحد بيسوق بطريقته المهم تتعلمي صح”، وأكاد أجزم أن هذه النصيحة تصلح للعلاقات الشخصية أيضًا، فكل شخص -حرفيًا- يحب ويقود علاقته بطريقته الخاصة، وما يصلح لغيرك لا يصلح بالضرورة لك.
دعني أسألك أولاً: هل ما تسعى للحصول عليه بكامل قوتك وكأنك في مارثون وليس علاقة إنسانية، هو نفسه ما ترغبه، أم أنك تسعى فقط للامتلاك وملائمة معايير الحب المثالي التي وضعها آخرون لسبب ما لا نعلمه؟
ما هو مقياس نجاحك في علاقتك الخاصة.. أنت وشريكك أم الآخرين؟
هل ترغبين حقًا في أن تصبح حياتك كحياة صديقتك أو قريبتك التي تبدو مثالية رائعة؟ وهل إذا حدث سترضين بعيشها كاملة “بالحلو والوحِش” حتى وإن كان الأخير مستترًا؟
هل فكرت لمرة واحدة أن تقف وتلتقط أنفاسك وتنظر لعلاقتك العاطفية بعيدًا عن المقارنات، لتُقدِّر ما تملكه وتعيشه حقًا، قبل أن تضيعه من يديك بالجري وراء المثالية؟
هل تخيلت للحظة أن هناك من يقارن نفسه بك؟ ويتمنى أن يصبح مكانك؟ وأن تنظر لشريكك إن كان يفعل ما بوسعه فعلاً بعين الرضا لا بعين النقصان وطلب المزيد والمزيد؟
تخيل نفسك بداخل أحد المتاجر المفضلة لك، ولديك وقت محدد للحصول على كل ما ترغبه مجانًا، فرصة ذهبية، لكنك بدلاً من ملء سلتك الشخصية، وقفت زائغ العينين تنظر لمن حولك كيف يتصرفون وماذا يقتنون بسلالهم، فانتهى الوقت وأنت واقف مكانك فارغ اليدين.
بنفس المنطق، ضع حياتك العاطفية في مقارنة دائمة مع الغير، وتأكد أن العمر سيمضي ولن تعيشها أبدًا.. أو اصنع حالتك الخاصة، بتفاصيلها الحميمية التي لا تشبه أحدًا سواكما.
عش الجرأة والاشتعال في البدايات واستمتع بعدها بالنضج والهدوء والاستقرار، لا تقارن من يخطو أولى خطواته بالعلاقة بمن قطع شوطًا في الرحلة بحلوها ومرها.. وتذكر دائمًا أن الصورة ليست كاملة كما تبدو، لكنك لا تقترب بالشكل الكافي لرؤية نقصانها.