كتبت هذا من وحي صديقتي البريئة الجميلة “فريدة”، التي تركت عجلة السير في عنق الزجاجة ورحلت لتعيش في سانت كاترين، حيث الفطرة والسعادة. عند مدخل شرفتي، بعد أن مضى من العمر الكثير -ولا أعني في ذلك سني- نظرت إليها تلك التي حدثتها وأنا في السابعة من عمري، نفس النجمة الساطعة التي أحدثها الآن وأنا في أواخر العشرينيات، محاولة أن ترشدني إلى مكان أبحث فيه عن سعادة تماثل سعادتي بالنظر إليها. وكلما أرسلت شعاعًا متوهجًا توجهتُ إلى حيث أشارت، ثم عدت إليها باحثة عن المزيد. في رحلتي قابلت كلمات رضوى عاشور “يبعث الله من يحتضنك في قلبه كوطن صغير”، فانتظرت ذلك الحضن طويلاً، حتى وجدته عند صخرة الملتقى.
ولما سولت لي نفسي البين، تجنبت كل الطرق وكل الممرات وكل الأماكن التي زرناها معًا، وجدتني أحاصر نفسي في حيزي الضيق وأختنق بأنفاسي الوحيدة، أهشم عظامي بنفسي وأضغطني بين صخرتين لا مجال للتمدد بينهما، ازدادت روحي نحولاً وبات النبض يتباطأ رويدًا رويدًا، حتى أدركت أن الذكريات تُذبَح عند صخرة الملتقى. باختصار يبدو أن هذا الحضن لم يكن شخصًا، أو ليس بالضرورة أن يكون شخصًا. هو شيء آخر لم أدركه بعد، لكنه حتمًا موجود.
في رحلة البحث عن السعادة وجدت أن الجمال يفيض من أشد الأماكن ظلمة ووحشة، كقاع البحر إذ يحوي حبات اللؤلؤ. ارتوى قلبي بحكايات أجنة اللؤلؤ، حين أخبرتني أنها ما هي إلا ورم خبيث تحوصل على دخيل في بيتها المحار، فكبرت ونمت حتى صارت ورمًا جميلاً يُدعى اللؤلؤ.
فكرت كثيرًا ماذا لو حقنت نفسي بذاك الدخيل حتى تحوصل بداخلي ورمًا؟ قد يصنع الجمال. فعلت ذلك وبات تركيزي على نفسي وغدي فيروسًا مؤلمًا لا يبدو فيه سوى الألم ثم مزيد من الألم. واشتد اليأس بي حتى انحشرت بداخلي، ونظرت نفسي إذ هذا الوهم ليس وهمي ولا القلب قلبي ولا ذاك العقل عقلي، وأمسكت بجرح قد يبدو قديمًا فإذا بي أتألم، وأستدير فألمح آخر ينزف فأضع يدي لعلى أوقف النزف فأصرخ من شدة الألم.
توقفت، إذ لا يمكن أن أحشر الجمال بنفسي حشرًا، لا أريد جمالاً صناعيًا، أريده طبيعيًا نابعًا من داخلي فعلاً، إذ كيف أخرجه من أعماقي إن كان موجودًا حقًا؟ أسندت ظهري على كرسي ونظرت إليها، عالقة هي في السماء وعالقة أنا على الأرض. بات كل شيء أكثر وضوحًا، لون الشجر، نفحات المطر، صوت الجداجد، زقزقة العصافير، صوت الخطوات على الأسفلت وضجيج أصوات العربات متداخلة مع أصوات البشر، أصبح الضجيج في رأسي لا يحتمل، أكاد أنفجر، حزمت حقيبتي وأسرعت محددة وجهتي، هناك بين الجبال، بعيدًا عن الصخب.
وأدركت حينها أني وجدتني، وعلمت أني لا أهوى حياة الحضر، تمنيت بيتًا من أغصان الشجر، وأن أصنع العقد من صغير الحجر، أكتسي حبًا بأوراق الربيع وأبحث عن أقراني بين بيوت البدو والغجر، نغني للأرض كما ولدنا، هنا لا يباع لحم البقر ولا يشترى ديك نقر، هنا الباحثون عن الحرية تتطاير أفكارهم كالشرر، إذ لا ملوك تحكم في سقر، أو بالأخص دستورنا أن لا قانون يحكمنا سوى الزرع والشمس والمطر والفطرة وضمائرنا اليقظة.
هناك بين الجبال الوعرة نظرت إلى نجمتي، كانت أكثر وضوحًا وجمالاً، ترشدني إلى الطريق بسهولة، طريق لا يمكنك أن تقف فيه منتظرًا زحمة السير، طريق في الحقيقة ينتظرك أن تسير فيه بلا توقف، مدركًا أن أقسى متاهة فيه أن تنادي وتتبع صدى الأصوات التي تتنقل بين الجبال في براح وسكن. هناك سترى أن السعادة تنبع من داخلك، فتفيض على كل ما حولك وتصبح أنت السعادة التي يرتحل الناس بحثًا عنها. هناك حيث السعادة هي أنت. فشكرًا للملاذ الذي احتضنني كوطن صغير، وشكرًا لـ”فريدة” التي أرشدتني إلى النور.