عشرون ثانية.. عشرون ثانية هي المدة التي نحتاجها لنُخلّد الذكرى. كل ما في حياتنا لا يحتاج أكثر من عشرين ثانية شجاعة أو حماقة أو هزيمة أو استسلام أو إقدام.. نحن لا نحتاج أكثر من عشرين ثانية للبوح ببعض الحماقات في مجلس لطيف ونندم عليها باقي العمر. نحن لا نحتاج أكثر من عشرين ثانية لنفصح عن مكنونات القلوب.
استيعاب الحقيقة أيضًا لا يحتاج أكثر من عشرين ثانية. تنسلّ الروح من الجسد في عشرين ثانية.. وفي مثلها يقذف المولود من رحم أمه. كبشر نحن لا نحتاج أكثر من عشرين ثانية لنرتكب أكبر حماقات سجّلها التاريخ أو أعظم الانتصارات. حياتنا هي عبارة عن الكثير والكثير من الـ”عشرين ثانية”، لكننا حين نبحث عن الحياة تتحول عشرون ثانية إلى حياة في حد ذاتها.
نكتشف المرض من كلمة طبيب أو نتيجة تحليل ما في بضع ثوانٍ لا تتعدى عشرين ثانية، وعند المرض تنكشف الحقائق، تصبح الكلمات في معناها أشد صخبًا من ذي قبل. حديث من حولك يشبه تمتمات بلا معنى، فأي حديث يتلى لن يكون بصخب الكلمات التي في رأسك. نستودع سرنا في الأشياء البسيطة حتى نهدئ من روعنا. نكتب قصيدة الموت الأخيرة لنخلد ذكرانا لهؤلاء الذين لم يعوا أبدًا كم أرهقتنا نفوسنا قبل أن ترهقنا نفوسهم بكثرة أحاديث لا معنى لها.
نحن نستودع سرنا لزهرة بريئة ربما تذبل وتموت قبلنا، أو لعصفور زقزق من شدة العطش عند مدخل شرفتنا، نخبره أن الحياة قصيرة، ونشكو قلة حيلتنا، ونحن نحتمي بين جدراننا من قسوة الحياة، وهو وحده يواجه قسوتها بلا جدران، عُرضه لكل أنواع المخاطر. نجلس أمام البحر نذرف دموعًا تملؤها الشكوى، تختلط بمائه، ويردها الموج إلينا من جديد، حتى الموج يأبى شكوانا التي لا تتعدى عشرين ثانية. ولكننا نفضل الجلوس بين أحضانه لأنه لا ينطق، رغم أننا نعي جيدًا أنه لو نطق لقال “بما كسبت أيديكم”.
نحن نُحدّث ما لا ينطق لأننا لا نقوى على سماع التوبيخ. نلوذ بالصمت لأن أعمق الكلمات لا تقوى على استيعابنا، لا يمكنها أن تصف اختلال نبضات القلب، وصعوبة الهواء الذي يدخل ويخرج على غير طبيعته. نلوذ بالصمت لأن من حولنا لم يلمسوا أرواحنا، ولم يطببوا علتنا. يستنكرون علينا خطواتنا المتعثرة على أرض غير مستوية، يسيرون على الأرصفة يتباهون بخفة خطواتهم أمام خطواتنا المثقلة.
كيف لم يعوا بعد أن أقوى انتصارات الهوى سبقتها خُطى متعثرة استغرقت عشرين ثانية فاشلة متكررة حتى أتت تلك الأخيرة الناجحة. أقصد أن حياتنا هي عبارة عن عشرينات كثيرة مهمة أو غير مهمة، هذه العشرينات بحاجة إلى ميزان يحتويها في قوتها وضعفها.. ولكن بعيدًا عن مراحل الثبات التي لا تحوي شيئًا، فهي عشرينات مهدرة وهي ما علينا أن نحاربها باستماتة.. لأنها تحمل في طياتها اللا شيء.
كمن يحمل في صندوق ذكرياته صفحة بيضاء.. ما أهميتها ؟ لا أدري. لذا فقصيدة الموت لست أكتبها وحدي، أنا أكتبها مع كل هؤلاء الذين استودعتهم سري، ولم يكن لهم نصيب لسماعها في عشرين ثانية أخرى. فمنذ أصبح العالم جافًا جدًا، بتُّ أبحث عن عشريناتي التي أحبها.
لا أدري متى توقف ابن الجيران عن كتابة كلمات الحب الطفولي وتمريرها من تحت باب بيتنا. لمَ توقف أصدقائي عن اختطافي من بيتي لنصنع ذكريات عشرين ثانية ونخزنها في صندوق الجمال والحب؟ لماذا لا يرسل لي أحد باقات ورد لا يكلف اختيارها أكثر من عشرين ثانية؟
لم أستقبل رسومات كريكاتيرية مضحكة لشعري غير مهندم وشخص يشبه الزومبي وعليه خريطة اسمي. هل بات مستحيلاً أن يمسك أحد يدي ونسير معًا على الرمال ساعة الغروب لنشهد أجمل انتحار في التاريخ؟ لماذا خفت ضوء كل ما يبعث الجمال في هذا العام القبيح؟ فكم عشرين يجب أن تضيع قبل أن ندرك أننا نفقد الإحساس بقيمة الحياة إذا فقدنا جمالنا في أعين من نحب؟!
لم يتبق الكثير من عشرينات الحياة.. لذا استغلوها في الضحك والصراخ والبكاء والشجاعة والحماقة.. استغلوها في أي شيء ولكن أبدًا لا تدعوا مجالاً للثبات في حياتكم.. فالثبات هو حياة مع قيد التنفيذ.