وقوع البلا ولا انتظاره

1796

زمان كانوا بيقولوا في الأمثال “وقوع البلا ولا انتظاره” وقالوا كمان “وجع ساعة ولا كل ساعة” وده بالظبط اللي إحنا مش بنعمله.

كلنا بنتعرض لضغوط نفسية، وكلنا بنحاول نتعامل معاها، بس مش كلنا بنعرف نحلها بسهولة، المشكلة عمرها ما كانت في إننا معرفناش نحل مشاكلنا النفسية أو نتعامل مع وجع النفس وتعبها، المشكلة الحقيقية إننا أصلًا مبناخدش خطوات صح عشان نخف.

هحكيلكم حكاية قديمة، عن واحدة صاحبتي جدا، أيام الجامعة كان عندها مشاكل مع وزنها، كانت شايفة إنها لازم تخس بأي طريقة وكانت كارهة شكلها جدا، جربت أنواع ريجيم مختلفة وكانت بتنجح، بس لقت حاجة بتخسسها أسرع ومن غير مجهود، كانت بتاكل وتتقيأ الأكل بعدها، في الأول الموضوع كان مجرد تجربة، لحد ما لقتها وسيلة مضمونة لخسارة الوزن بسرعة، ابتدت تتبع ريجيم القيء واللي هو شيء قاتل -قاتل بجد وممكن تدور على النت عن أضراره- وبقى أسلوب حياة بالنسبة لها ورافضة تعترف إنه اضطراب نفسي.

أنا وهي كنا عارفين إنها كده دخلت مرحلة اضطرابات الطعام الصعبة جدا، واللي لازم لها تدخل علاجي نفسي فورا، وطول الوقت كانت بتأجل ده، في الأول كانت خايفة تقول لأهلها لأن محدش هيتفهم، وبعدين بقت بتأجل عشان متخوفة من الخطوة، وابتدت الحجج تبقى منطقية في نظرها جدا.

لما الترم ده يخلص عشان أبتدي علاج وأنا مفيش ورايا حاجة، لما النتيجة تظهر عشان أبقى اتطمنت، لما أخلص جامعة عشان يبقى معايا فلوس أتعالج، هستنى شوية وأكيد لما حياتي تتغير وأبتدي حياتي العملية هبقى أحسن، بكرة أحب وأتحب ونفسيتي تتعدل لوحدها.

صاحبتي دي اتعالجت دلوقتي وبقت كويسة، مش قصتنا اتعالجت إزاي، إحنا قصتنا الحقيقية هي في المرحلة اللي كانت بتأجل فيها العلاج.

معظمنا عايش حياته بمنطق المراحل، بكرة لما أخلص تعليم هعمل كذا وكذا، لما أتخطب هروح المكان الفلاني، لما أتجوز هصبغ شعري، لما أخلف هبقى أخس، لما الولاد يكبروا نبقى نفكر في السفر، والمشكلة إننا بنتعامل حتى مع التعب النفسي بنفس الشكل.

طول الوقت بنأجل الاعتراف بالتعب النفسي، مش لازم نسميه مرض نفسي ونتكلم في المشاكل المعضلة، بس على الأقل خالص الإرهاق النفسي الناتج عن ضغوط عشناها ومعرفناش نتعامل معاها، الضغوط دي لما بنرفض التعامل معاها وحلها أو بنأجل ده، الموضوع بيكبر وممكن جدا يتحول لمرض نفسي مزمن ياخد وقت ومجهود وفلوس عشان نعرف نحله.

قوليلي كده كام زوجة شفتيها بترفض تعترف مثلا إنها محبطة أو مكتئبة عشان مينفعش دلوقتي تدخل في الدوامة دي، ستات كتير هتلاقيهم بيأجلوا اعترافهم إنهم تعبانين نفسيا عشان مينفعش دلوقتي، إما لأنها لسه متجوزة جديد ومينفعش عروسة جديدة تبقى مكتئبة أو حاسة بمشاعر سلبية، أو لأنها حامل فلازم دلوقتي تركز في صحة الجنين وبس، أو لسه والدة فلازم عليها إنها تكون فرحانة بالطفل ومتفكرش في نفسها، أو جوزها عنده مشاكل أو مصاريف كتير فمينفعش تتقل عليه أكتر من كدة بوجعها هي كمان، أو -وده السبب الأشهر- عشان عيب الناس يقولوا إيه؟ الولية اتجننت؟

كل دي أسباب من وجهات نظر الستات منطقية جدا لتأجيل الاعتراف بالتعب النفسي، والمشكلة إنهم مش بيكونوا واخدين بالهم من إن تأجيل الاعتراف وإزاحة الشعور ده لخلفية أفكارك مش معناه إنه مبقاش موجود، بالعكس تماما، إنتي كده زي ما تكوني بتربي وحش، كل حاجة سلبية بتحصل في حياتك بتكبره وتغذيه، لحد ما في لحظة هتلاقيه هجم عليكي عايز ينتقم من حبسته طول الوقت اللي فات.

وساعتها هتكون السيطرة عليه صعبة جدا.

مش الستات وبس هما اللي بيأجلوا الاعتراف بالتعب النفسي، إنما كمان الراجل طول الوقت شايف إنه مينفعش يطلب المساعدة النفسية، إما لأنه شايفها عيب وإنه مش مجنون عشان يطلب المساعدة، أو لأنه شايل طن مسئوليات على دماغه ومعندوش فائض من الوقت ولا الفلوس اللي يخليه يهتم بصحته النفسية.

أنا مش بتكلم هنا عن الإحباط أو الاكتئاب بمعناه الدارج، أنا بتكلم عن مشاعر سلبية بنفضل ندفنها جوانا طول الوقت وإحنا فاكرين إنها مرحلة وهتعدي، زي ما اتعودنا نأجل كل شيء في حياتنا للمرحلة الجاية، واللي غالبا مبتجيش.

لو قعدنا ندور على الأسباب اللي تخلينا نأجل الاعتراف بتعبنا النفسي هنلاقي أسباب كتير، المجتمع اللي حوالينا كله بيرفض التعامل مع المشاكل النفسية باعتبارها أسباب قوية لتعطيل حياتنا، مشاعر الخوف مثلا مرفوض تماما إننا نبوح بيها، فبنفضل نكتمها جوانا لحد ما تكتم على أنفاسنا، مشاعر الرفض مينفعش نصرح بيها وإلا هيتم اتهامنا بنقص الإيمان أو الدلع، اضطرابات النوم محدش بيقتنع إنها حاجة قادرة إنها تهد حياتنا حرفيا، وكل الناس مقتنعين إن كوباية لبن دافي وللا كوباية ينسون هتحل الموضوع، في حين إنها مشاكل حقيقية وكبيرة وفي أحيان كتير بتتطلب تدخل علاجي.

كلنا معتبرين إن التعب النفسي -ما زلت مصرة على تسميته تعب مش مرض- بلاء ووجع وحاجة مينفعش تكون موجودة في حياتنا، وكلنا ناسيين تماما إن حتى لو التعب النفسي بلاء فوقوع البلا ولا انتظاره، والاعتراف بيه دلوقتي هيجنبنا الخوض في تفاصيل كتير مرهقة، وممكن جدا تحول التعب النفسي اللي ممكن جدا يتحل بشوية قراية وكلام لمرض نفسي يستلزم إننا نتابع مع دكتور.

التعب النفسي مش عيب، العيب إننا نفرط في نفسنا ونفرط في الأمانة ونضيع عمرنا في انتظار مراحل هتحل كل حاجة لوحدها.

إحنا بنعيش مرة واحدة، فإما إننا نعيشها صح، أو نعيشها صح، وقوع البلا ولا انتظاره يا جماعة، وقوع البلا ولا انتظاره.

المقالة السابقةكن سعيداً
المقالة القادمةحببي طفلك في القراءة منذ ميلاده
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا