وقفة الكُشك السحرية

634

أول حاجة هفكر فيها لو كنت راجل، إني أقف على الناصية في الشارع عند كشك الحاجة الساقعة.

أمنية تافهة؟!

 

يمكن تبان تافهة، ويمكن أكون قلت أمنيتي دي بسرعة وبدون تفكير، وسألت نفسي ليه متعبتش عشان أفكر في أول حاجة هعملها لو كنت اتولدت ولد؟

والحقيقة إن أنا نفسي مستغربة من السرعة في اختيار أول حاجة هعملها لو كنت ولد. يمكن لأن الأمنية دي بالذات (وقفة الكشك) عندي من زمن بعيد، بحلم بيها يعني.

 

اتربيت في بيت فيه مساواة لدرجة معقولة بين الولاد والبنات، كنت بلعب في الشارع، بركب العجلة وبلعب كورة وبروح النادي.

لكن مع سن المراهقة، بدأت خروجاتي مع صديقاتي من الفتيات تتغير شوية بشوية، يمكن محدش طلب مني ده، لكن جت بطبيعة الحال، بحكم التنشئة الاجتماعية اللي بتكون مش بس في البيت، بتكون كمان في كل الكلام اللي بنسمعه في المدرسة ومن الصحاب وفي التليفزيون، الكلام اللي بيخلق الوعي الجمعي للبشر اللي عايشيين في المجتمع ككل.

 

بقينا نتمشى لحد محل الآيس كريم ونقف عنده شوية وبعدين نرجع بيت حد فينا، وممكن نعمل أكل. يمكن محل الآيس كريم قريب من فكرة الكشك، لكنه مش زيه بالظبط، فيه فرق، البنات بس اللي يقدروا يحسوا بالفرق ده.

 

في الجامعة.. الخروجات كانت سينما أو مطاعم أو تجمعات في بيوت، أعرف إن فيه بنات مش بيكون متاح لها ده، والمفروض أكون ممتنة كفاية بشكل يخليني مشوفش اللي ناقصني.

ومع ذلك فضلت ناقصاني “وقفة الكشك”.

 

مع إني بخرج في أماكن أجمل، وأكيد بصرف فلوس أكتر من اللي بيصرفها أخويا أو جاري أو أي ولد في سني وهو واقف قصاد الكشك، بيشرب حاجة ساقعة وبسكويت بيمبو وكيس شيبسي صغير، أو حتى عائلي.

 

بس الكشك كان دايمًا فيه حاجة سحرية جميلة ناقصاني. مظنش إن حبي ليها اتخلق لأن الممنوع مرغوب، لأني عمري ما فكرت مثلاً في قعدة القهوة ولا استحليتها، ده على سبيل المثال. يمكن عشان فيه شيء موازي للقهوة، نسبيًا وهو “الكافيه”، إنما “وقفة الكشك” مفيش شيء موازي لها تقريبا.

 

الحلو في وقفة الكشك هو ببساطة يتمثل في انعدام الهدف. بتحصل في أي وقت وكل وقت، وبلا سبب معين أو تبرير لتلك الوقفة. ساعات الخروجة كلها بتكون هي بس الوقفة دي اللي قصاد الكشك. وساعات مبيكونش فيه أصلاً خروج والوقت شتا وبرد وامتحانات، والكل قاعد في البيت، لكن الولاد بينادوا على بعض من الشبابيك، وبكل أريحية بيقولوا اسم بعض بصوت عالي بدون خجل، فينزلوا ويتسرسبوا ويقفوا قصاده كنوع من التسرية أوالتهوية.

 

وبعدها.. يطلعوا يكملوا مذاكرة.. عادي.

ولا بيكون اسمها خروجة واتحسبت عليهم، ولا بتحتاج فلوس، ولا بتحتاج ترتيب، ولا استئذان.

 

وساعات الدنيا تكون صيف ونفس الشلة خارجة، في السينما أو في أي مكان، لكن يفضل الكشك بمثابة “ديل” للخروجة، تكملة ليها، “كمالة” بلغة الكشري.

ترجع الشلة على الشارع اللي هم ساكنين فيه، لأنهم في الغالب جيران في نفس المنطقة، وقبل ما يطلعوا بيوتهم، بتيجي اللحظة السحرية.. بيشوفوا الكشك من بعيد واقف في شموخ، فبيقرروا يقفوا شوية قصاده.. “لكاعة”.

 

في الحقيقة عمر ما حد قال عليها لكاعة، يمكن عشان اللي بيعملها ولاد والبنات هم اللي بيتوصموا باللكاعة.

 

صحيح بنقول على الولاد دول “صيّع” بسبب وقفتهم أمام هذا الصغير الساحر الملقب بـ”الكشك”، لكن مع ذلك عمر الوصف ده ما بيكون وصم ليهم أبدًا.

 

“صيّع”! كلمة كبيرة، بس مع الولاد بتبقى كأنها كلمة عادية، مبتلزقش، فمش بتعيب حد فيهم ولا بتسيبله علامة مميزة بالسلب تجري وراه طول عمره.

 

الستات عندهم برضو فكرة “ديل الخروجة”، أو إن صح التعبير “ديل الزيارة”، استخسار إنهاء اللقاء والوقوف أمام باب الشقة لتكملة شوية كلام. ورغم إن الستات دايما يتلاموا على الحركة دي، إلا إنها نفس فكرة وقفة الكشك، لأن الدقايق الأخيرة دايمًا ليها سحرها الخاص.

 

واستكمالاً لفكرة “الشتيمة اللي مبتلزقش” في الولاد وبتلزق في البنات، فشباب الكُشك أحيانًا بيتجاوزوا المتعة الحلال المتمثلة في الوقوف في الهوا، ويقفزوا على أشياء أخرى، زي المعاكسة بدرجاتها، أو حتى مجرد ملاحظة الرايحة والجاية من الفتيات المساكين وانتقادهن أحيانًا.

 

والغريب إن البنت اللي ماشية في حالها غالبًا هي اللي بتتوصم، لأن شباب الكشك قرروا ده، وبيفضل شباب الكشك رغم كل اللي بيعملوه ورغم الوصم بالصياعة، شباب عاديين، مقبولين اجتماعيًا جدًا

 

يمكن طايشين وأكيد هيعقلوا.. المهم إنهم مصنوعين من “تيفال”، الشتيمة مبتلزقش فيهم، والقطنة مبتكدبش.

 

البنت مبتبقاش عايزة تنزل الشارع أو تنزل البحر أو تنزل تركب عجلة عشان أي حاجة مرفوضة، هي بس محتاجة زيها زي الولد وزي أي كائن حي معدي في الشارع، إنها تشم هوا من غير ما تتحط في قوالب.

 

من غير ما تكون الخروجات هي بس المدرسة أو الجامعة وزيارات العائلة، أو حتى الخروج للسينما أو المطاعم.

الفضاء العام كله ملكية للجميع، مش ملكية خاصة للولاد، والبنات مش مفروض أبدًا يكونوا مجرد ضيوف عليه. البنات مش بينزلوا في الشارع ولا في أي مكان فقط لأن الممنوع مرغوب، هو فعلاً النزول في الشارع شيء مرغوب، لكن ليه من أصله يكون ممنوع؟

ليه الأصل في الأشياء مش هو الإباحة زي ما دايمًا بيتقال؟!

 

البنات مش بينزلوا في الشارع ولا في أي مكان للفت الأنظار، مش بيلبسوا حلو للفت الأنظار، هن كائنات عاديات ولديهن أسباب كتيرة لحب الحياة والاستمتاع بيها، بدون ما يكون فيه أي غرض ملتوي لذلك.

 

لو كنت ولد.. أول حاجة هعملها هنزل أقف قصاد الكشك.. أقف بكل حرية.. لأن الشارع بتاعي.. لمجرد إني ولد. وبالتالي هيكون متاح بالنسبة لي أنا وأبناء جنسي بس، الاستمتاع بالوقفة اللي ملهاش أي ميزة غير كونها رمز للحرية البسيطة المطلقة بلا أي قيود ولا أسباب.

تلك الوقفة المجانية الساحرة.. “وقفة الكشك”.

المقالة السابقةمولان.. فتاة لفظتها النساء وأنكرها الرجال فأدهشت الجميع
المقالة القادمةهل حقًا الجري نص الجدعنة! كيف تتخلص من الخوف من مواجهة الناس ومواجهة المشاكل
سمر طاهر
مترجمة ومحررة أخبار بالإذاعة، وكاتبة سيناريو، وعضوة في اتحاد كتاب مصر.

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا