معنى مناجاة الله، أجمل عبارات لمناجاة الله في الليل

2776

(1)

كنت أسمعها كثيرًا وهي تدعو الله في خلوتها معه ليلاً بعد أن ننام جميعًا، لم أُرد أن تعرف أنني كثيرًا ما أقلق من نومي وأقوم لشرب الماء أو للذهاب لدورة المياه، فأسمعها تناجيه مناجاة تستوقفني لأسمعها من شدة عذوبتها، فقد عرفتها تحب أن تجلس مع الله وحدها وتكلمه، ولا تفعل هذا إلا ليلاً وكلنا نيام، تخرج إلى شرفة شقتنا الصغيرة المُطلة على الشارع الضيق، في ظلمة تتخللها أضواء القاهرة الساهرة، ويكتنفها الصمت.

 

كان صوتها العذب ذو اللهجة البسيطة يُشعرني بالصفاء، رغم أنها كانت تحاول أن تدعو الله بألفاظ سليمة بعيدة عن أي خطأ أو عسيرة على الفهم، إلا أن لهجتها العامية الصعيدية كانت تتسلل إلى حديثها مع الله في أكثر أوقاتها تأثرًا بالدعاء، نعم كانت تحاول بقدر الإمكان الحد منها، لكن يخونها لسانها نهايةً إذا ما كانت تدعو لتفريج هم أو كرب، لتفلِت منها الفصاحة كثيرًا.

اقرئي أيضًا: شكرًا يا الله.. لأنك الله

سمعتها مرة تقول “يا رب آني معوزاش غير رضاك عليّ.. آني بس مفهماشي ليه ده حُصُل.. بيِّنلي حكمتك فيه يا رب.. وحوش عنا نقتك يا رب”. فاستوقتني “نقتك” هذه، واحترت في تفسيرها دهرًا، وراودتني نفسي عن أن أُكلِّم “رشا” في الأمر في اليوم التالي بعد أن نعود من كلياتنا وأعمالنا إلى مسكننا الصغير في مواجهة بوابات جامعة القاهرة، لأسألها ماذا تعني بـ”نقتك” هذه، والتي لم ترد قط عليّ، وأنا المهتمة ببحر مفردات اللغة العربية، لكني خفت أن تظن أني أسترق السمع لها دائمًا، وأن تكف بسبب هذا الظن عن عادتها بأن تُكلم الله ليلاً وتشكي له همومها، وأن تبحث عن مكان آخر لمناجاته، يحرمني من سماع صوتها إذا ما قمت لقضاء حاجة في الليل.

 

لكن لم يكن في الأمر بُد، فقد كررتها مرات في دعواتها لله، فاستجمعتُ شجاعتي وذهبت إليها، وشرحت الأمر بهدوء، وسألتها ماذا تعني بكلمة “نقتك”، فما كان منها إلا أن تبسمت ابتسامة لا تقل عذوبة عن صوتها، وقالت “سمعت عم الشيخ حدانا بيجول اللهم ارفع نقتك وغضبك عنا.. وحسيت معناها تجيل.. كيف الغضب تمام”، فضحكت بشدة وقلت لها إن الكلمة الصحيحة “مقتك” وليس “نقتك”، وإن المقت من الكره والغضب وعدم الرضا، ولذلك لا يوجد شيء اسمه “حوش عنا نقتك يا رب”، فشعرت بأنها قد تألمت بعض الشيء، واكتسى وجهها بمسحة رقيقة من الحزن، تعتريه ابتسامة أقل صفاء من ابتسامتها التي اعتدتها، وقالت بلهجة حاولت تحييدها تمامًا عن الصعيدية “أنا صحيح متخرجتش من مدارس زييكم… لكن مفيهاش حاجة لو كنتي شرحتهالي من غير ما تضحكي عليّ”. وبرغم حرصي على إفهامها أنني لم أكن أسخر منها، لكن الأوان كان قد فات بالفعل، وكفت “رشا” عن الخلوة مع الله في الليل، بسببي.

 

(2)

“ربنا يخليك ليّ يا رب.. دايمًا ناصرني ع اللي ظالمني.. ربنا يخليك ليّ قوي”، قالتها بصوت عالٍ جدًا يصل إلى مسامع القاصي والداني، من بين دموعها الكثيفة جدًا، أمام سلالم المحكمة المواجِهة لمكتب البريد الذي أذهب إليه عادةً، وبين زغاريدها الممتلئة بالدموع، والتي لم أعرف سر النصرة التي كانت سببًا فيها، والدعوات المتلاحقة غير المفهومة، أسرعت خطواتي لكي أبتعد عن زحام سلالم المحكمة، ففارقني صوت دعائها وزغاريدها العالية رويدًا رويدًا، لكن لم يفارقني كُنه الدعوات، وتعجبت، كيف لإنسان أن يدعو الله بما هو مستحيل، فكيف يديم الله نفسه لأحد إن كان هو الحي الدائم الذي لا يموت؟! وهل يقبل الله هذا الدعاء المبهم غير المفهوم هذا؟!

 

(3)

كانت تحكي دائمًا عن دعائها لله، وهي طفلة لم تبلغ السابعة بعد، وتسخر من نفسها بشدة، خصوصًا حين كانت تتوجه إليه بطلب كان مهمًا جدًا في نظرها آنذاك ولا يحتمل أي تأخير، كأن تتركها أمها تنزل للعب الاستغماية في الشارع مع أطفال الجيران، والذي كانت ترفضه خوفًا عليها.

 

قالت لي: “أشهد أن ليس ثمة مرة دعوت فيها الله بشأن هذا الأمر تحديدًا إلا وكانت أمي تلين، كنت أخاف أن أدعوه يوميًا حتى لا يمل مني، فقد أخبرتني أمي أن الزن على الكبار لتحقيق طلباتي شيء غير مستحب وسيمنعهم من موافقتهم عليها، كنت أناجيه بعد أن تضعني في سريري، أُضيء نور أباجورتي الصغيرة الموضوعة على الكومود المجاور له، وأقول له مساء الخير يا رب، أنا بقالي أسبوع مطلبتش حاجة منك أهو، يا ريت تخلي ماما توافق إني أنزل بكرة مع البنات نلعب، ويا ريت متخليش ميدو ابن طنط نوال يطب علينا ويبوظ اللعبة كل مرة، يا رب أنا مش عارفة حضرتك بتخلق ناس رخمة ليه، بس ماما قالتلي إن أي حاجة ربنا بيعملهالنا ليها سبب مش بنشوفه ساعتها، يا رب متنساش إنك تخلي ماما توافق، هاه؟ مش هترد عليّ برضو؟ طيب.. خلي بالك من نفسك ودخل البيجامة في البنطلون عشان متبردش.. تصبح على خير”.

اتضح لاحقًا أن لوجود “ميدو” ابن طنط “نوال” في حياتها سببًا هامًا، فقد تزوجته بعدها بعشرين عامًا.

 

(4)

يظن البعض أن الإنسان في مناجاته لله تعالى يحتاج إلى الكلام المقعر الفصيح كبير الدلالة والمعنى، لأنه لا شيء أعظم شأنًا من الحديث مع الله عز وجل، فحين تكتب رسالة إلى مديرك أو إيميل خاص بجهة عملك تتفنن في كتابة الألفاظ الصحيحة والعبارات الرنانة، وبما أن المثل الأعلى لله وحده، فمن الطبيعي جدًا أن يكون الكلام معه بقواعد وحدود، لا يُسمَح لأي أحد بأن يحيد عنها.

 

لكني تعلمت من خلال معاملاتي المختلفة مع البشر، أن لكل منا أسلوبه في الحديث، وطاقته في الكلام، لا يعيبها كونه غير قادر على الصوغ والتعبير بشكل سليم، فالله يقبل الكلام من القلوب لا من الألسنة، يسمع مناجاة الواقفين على أبوابه ليل نهار، لا لأنهم فصيحو الألسنة، بل لأنهم فصيحو القلوب، تتحدث قلوبهم نيابةً عنهم في كل مرة يتقربون فيها من الله بمناجاتهم، لا يبحثون عن التيمة العامة للكلام، بل يدفعهم حبهم وشوقهم ورغبتهم في الشكوى لله أو التضرع له، إلى أن تتخبط مفرداتهم في تفسير مشاعرهم المتقدة.

 

فلا يستوجب على أحدنا أن يفرض نمطًا معينًا من الدعاء على الآخرين، أو أن يسخر من أحدهم لأنه لا يحسنه.. فطوبى لمن يسمع الله مناجاته، ولو كانت حتى بكلمة.

المقالة السابقة“هذا المساء”.. يُغرِّد منفردًا خارج السرب
المقالة القادمةالابتزاز الالكتروني وضحاياه، كيفية التعامل معه ورقم مكافحة الابتزاز الالكتروني
آلاء الكسباني
صحفية وكاتبة مصرية.

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا