“هذا المساء”.. يُغرِّد منفردًا خارج السرب

377

ياسمي

 

مثلث الزوجة الأولى، الزوج، الزوجة الثانية، لا غنى عنه في الدراما، فمن جهة هو فكرة ثرية دراميًا رغم تكرارها، ومن أخرى تنجح في استفزاز الجمهور بما يكفي للمتابعة، إن لم يكن لاتفاقهم مع ما يحدث، فلصب الغضب واللعنات أثناء المشاهدة، أو على الأقل رغبةً في التشَفِّي بما سيحدث بالنهاية.

 

إلا أن مسلسل “هذا المساء” يُقدم العلاقة ثلاثية الأطراف بشكل آخر، يبعث على التفكير والتأمل، وسط حالة تجمع بين الهدوء والشجن، تجعل المتفرج لا يستطيع أن يكره أي طرف، بل على العكس، يبحث لهم عن الأعذار عساهم يتطهرون.

 

(1)

في البدء كان هناك “نايلة” و”أكرم”

زوجان من علية القوم، مستريحان ماديًا واجتماعيًا، للوهلة الأولى سيبدوان لنا كزوجين مثاليين ليس لديهما ما ينغِّص عليهما حياتهما، فكلاهما يعمل بوظيفة أحلامه التي يُجيدها ويستمتع بها، يُحبان بعضهما بعضًا، ويبدوان منسجمين، لديهما طفلة جميلة وذكية.. ولكن.. مع الوقت نُدرك أن شيئًا ما ليس على ما يرام، ونكتشف عطبًا ما بعلاقتهما الحميمية، فالزوج لا يتمكن من الوصول إلى النشوة مع زوجته، بينما الزوجة تشعر أن زوجها معها دون روح، فهل هناك امرأة أخرى بحياته؟

 

في هذا الوقت لم يكن بحياة الزوج أي امرأة سوى زوجته، هو نفسه لم يكن يعرف لماذا تنتابه تلك الحالة معها وهي المرأة التي يُحبها فعلاً ولا يُريد أن يخونها! لكنه في الوقت نفسه لم يملك من الجرأة أو رُبما الرغبة في إيجاد حل ما يكفي للمواجهة، وطرح المشكلة بشكل واضح وصريح على الترابيزة. “نايلة” أيضًا كانت على قدر معاناتها بهذا الخصوص، تنحاز لكرامتها الجريحة إثر وجودها بين أحضان رجل لا يبدو على جسده أنه يشتهيها بنفس القَدر الذي توحي به كلماته.

 

إذًا نحن أمام حاجز غير مرئي، ولا نعرف أسبابه، حاجز موجود فعلاً بين كثير من الأزواج، ويؤدي إلى هَدم الكثير من العلاقات، ذلك لأن الجنس ليس شيئًا هينًا كما يُمكن أن يتصوَّر البعض، حتى أنه دفع “نايلة” لطلب “بريك” وقتًا مستقطعًا من زوجها، عساهما يشتاقان بعضهما لبعض، فيتغلبان على ما يفصل بين روحيهما، أو يبتعدان للأبد غير مأسوف على علاقتهما.

 

(2)

بعدها كان هناك “نايلة”

و”أكرم”

في البداية يرفض “أكرم” الـ”بريك”، لكنه أمام إصرار زوجته يضطر لمجاراتها، ليتحوَّل لبعض الوقت إلى شبح، لا يعرف كيف يكون سعيدًا دون نصفه الثاني. هنا تنكشف القليل من الأوراق، فـ”نايلة” امرأة تربت في أسرة خان الأب فيها زوجته كثيرًا، مع تحمُّل الأخيرة من أجل بنتيها، ما جَعل البنتين تنشآن في بيت مُلَغَّم وغير آمن مهما حاول أصحابه التظاهر بعكس ذلك، وحين تُقرر الأم الاكتفاء من تلك الحياة المُهينة تنفصل، لتبدأ البحث عن سعادتها بطريقتها الخاصة، عَبر علاقات متعددة مُثيرة للجدل والاستهجان.

 

تتحطم الفتاتان، كل بطريقة خلاف الأخرى، فحين تلجأ إحداهما للمخدرات، تُنشئ الثانية أسرة، ولكن يظل يُطاردها دومًا شبح علاقة أبيها بأمها، لتبدأ -خوفًا من الفشل- بالسعي في كل ملامح حياتها إلى المثالية، محاولةً منها أن تجعل كل شيء كما يقول الكتاب، ما يؤدي إلى تعاملها مع الحياة عمومًا وزوجها خصوصًا بالشوكة والسكينة.

 

نعم هي تُحب هذا الرجل الذي قررت مشاركته المُستقبل، لكنها دون أن تدري تسير في العلاقة حاملةً على كتفيها أعباء حياتها الأولى، في ظل جدارٍ تحتمي به عساه يقف فاصلاً بين روحها وأي ألم مُحتمل، لكنها بدلاً عن ذلك تضعه بينها وبين زوجها، ما يصبغ على علاقتها به نوعًا من الفتور والمُكابرة، وإن كان ذلك لا يمنعها من الشعور بالفَقد والنُقصان، إلا أنه يتسبب في رفضها الاعتراف بما تُعاني منه، تاركةً الكرة بملعب “أكرم”، لا زُهدًا منها فيه كما تصوَّر هو عن جهل منه وسوء تقدير، ولكن كمحاولة أخيرة منها للصراخ الصامت لإيقاظ جذوة الحب التي انطفأت بينهما.

 

لكن “أكرم” لا يفهم، فيُفضِّل بدلاً من المواجهة أن يعيش دور الضحية، حيث الرجل الذي تخلت عنه زوجته في ليلة عيد زواجهما العاشر، رافضًا الاعتراف بكنه العَجز الذي يعتريه، بالرغم من إعلانه بالفعل لطبيبه الخاص. وهو ما يجعلنا نُلقي اللوم الأكبر عليه، خصوصًا مع كونه ليس غبيًا وقادرًا على استنباط أن لسوء أدائه في العلاقة الحميمة دورًا كبيرًا فيما يحدث بينه وبين زوجته، لكنه -كما يليق برجل شرقي- عنيد يُفضِّل التظاهر بالجهل مُتحليًّا بكبرياء من شأنه أن يجعل تلك الزيجة تهوى إلى سابع أرض.

 

(3)

ثم جاءت “عبلة”

هي سيدة تسكن حارة شعبية، وتُدير مسمطًا ورثته عن والدها، أما عن نصيبها من الدنيا فسبق لها الزواج من رجل اعتاد الاعتداء عليها بالضرب لأسباب مختلفة، على رأسها عدم قدرتها على الإنجاب، ومع تماديه في إيذائها نفسيًا وبدنيًا يدفعها لطلب الطلاق، قبل أن تُقرر العيش بلا أملٍ، ظنًا منها أن الفرح لم يُكتب لها بالدنيا، وأن الله ترك لها نصيبها بالآخرة، كل ما عليها هو الصبر والرضا، وهو ما تفعله فعلاً بطيب خاطر، بينما ترفض كل محاولات أشباه الرجال الذين يتقربون منها باعتبارها “امرأة كَسر”.

 

وحين يتقاطع طريقها بالصدفة مع “أكرم”، تكتشف فجأة أن هناك “رجالة بتطبطب”، والأهم أنها كُتب لها أن تتذوق تلك الطبطبة على يَد ذلك الرجل، الذي دَب في أوصالها الروح ومنحها شعورًا بأنها “ست الستات”. فهذا هو كل ما كانت تحتاجه فعلاً، لم تنظر لـ”أكرم” كفرصة ستنتشلها من الفقر، كما لم تسع لإيقاعه في هواها وسرقته من زوجته، ورغم الاختلاف الشاسع بينهما إلا أن “أكرم” وجد معها السَكينة التي لم يجدها في حياته المُرفهة والكاملة، أو تلك التي تبدو لنا كاملة.

 

(4)

الآن وقد صار هناك “أكرم” و”عبلة”

استطاع البطل-بين أحضان زوجته الجديدة التي عرفت كيف تُوقظ رجولته المهدرة- أن يثأر لفحولته المفقودة، وأن يرتوي من نشوته التي هربت دون رجعة، إذ وجدها بفراش تلك السيدة التي لم تكن قوية ببداية عهدها بالدنيا، لكن أوجاع الحياة جعلتها تستقوى، بينما هي في الأصل من داخلها لا تريد سوى أن تعيش على أمل ألا يطالها من الدنيا وجعٌ جديد، رغم سابق علمها أن الرزق الضيق بيريَّح صاحبه.

 

أما “نايلة” فهي جاهلةً تمامًا بما يدور حولها، وتجلس بانتظار أن يتلهف عليها حبيبها مثلما تتلهف عليه، تُرى كيف سيكون رَد فعلها حين تكتشف أن “أكرم” لم يكن سوى رجل كوالدها، ورُبما ككل الرجال، وأن ما عاشت عمرها كله تتمنى ألا يحدث لها، حدث فعلاً؟ 

 

هذا ما ستكشفه لنا باقي أحداث “هذا المساء”، العمل الدرامي الوحيد بهذا الموسم الرمضاني الذي عرف كيف يمس شغاف القلب، فيُنيره بطريقة سحرية ودافئة، وإن كان هذا لا يمنع أننا -من فرط الشجن- مع كل مشهد نطالعه تنتابنا غصة موجعة، تجعلنا نرغب باحتضان الأبطال، هامسين لهم كَمن أدرك فداحة ما يمرون به، حتى وإن لم نكن قد اختبرناه من قبل، والأهم أننا نحن أيضًا موصومون وموجوعون مثلهم، لا أفضلية لأحد عن الآخر.

المقالة السابقةالإيمان منزل متعدد الغرف
المقالة القادمةمعنى مناجاة الله، أجمل عبارات لمناجاة الله في الليل
امرأة ثلاثينية متقلبة المزاج، أعشق الرقص على السطور كتابةً، أُحب الفن بمختلف أنواعه وأعيش عليه. والآن كبرت وصار عليّ أن ألعب في الحياة عشرات الأدوار طوال الوقت، لأستيقظ كل صباح أُعافر حتى أستطيع أن أُحاكي بهلوانات السيرك فأرمي الكُرات المُلونة بالهواء ثم ألتقطها كلها في آنٍ واحد.

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا