هل يمكن أن تردي لي قلبي يا فريدة؟

597

منذ أن أصبحت أمًا، وقلبي القديم الشجاع القوي خرج ولم يعد لي مرة أخرى، خرج مع ولادة طفلتي، ممزوجًا بقلبها الصغير، يمدها
بالقوة والطمأنينة والشجاعة.

وأصبح لديّ بدلاً من قلبي القديم قلب أم، أتى الأقارب والأصدقاء مهنئين بأمومتي، أخبروني أن قلبي تحول الآن مثل كل شيء سيتحول
لاحقًا، لم أفهم حينها، لكن مع أول بكاء وألم من وخز إبر التطعيمات لطفلتي، اختبرت ضعفًا وخِفة قلب لم أعتدهما قط في نفسي..
ارتبكت.

تمرّ الأيام والشهور، وأجد قلبي ينخلع، لأن صغيرتي تبكي مغصًا أو تسنينًا أو مرضًا عابرًا. يا الله.. هل هذا هو قلب الأم؟

لا أنام قلقًا على أنفاسها الصغيرة لمجرد إصابتها بنزلة برد، عند طبيب الأطفال أشعر بالألم مضاعفًا لرؤية المرضى الصغار، ملامحهم
الدقيقة وأجسادهم الصغيرة التي تعاني تؤلم قلبي وقلوب أمهاتهم، حتى صرت أدعو مثل أمي "يا رب اللي فيها ييجي فيّ.. أتعب أنا وهي
لأ يا رب"، تطور الأمر وأصبح قلبي يشعر بالألم مضاعفًا ومُركزًا تجاه آلام من حولي. أشعر به بقلب أم، ويا له من شعور لا يوصف!
وكأن كل خلايا جسدك وعقلك تشعر بالألم مليون مرّة، وليس مرة واحدة.

يخبرونني قائلين "لا جمدي قلبك أكتر"، تصيبني الحيرة لأنني بالفعل بحثت عن قلبي الجامد ولم أجده، لم أجده أبدًا، قلبي الجامد خارج
صدري الآن، يتحرك أمامي في كل حركة لصغيرتي، ينظر لي بعينين مفعمتين بالحماس وحب المغامرة والتجربة، دون أي اعتبارات
للألم أو السقوط أو الارتطام أو الوجع.. نعم أراه أمامي يوميًا وأنظر له وألمسه جيدًا، ولكنني لا أستطيع وضعه داخل صدري بعد الآن.

كلما رغبت في استعادة بعض من صفات قلبي القديم لأحتمل الأوجاع، يزيد الأمر سوءًا لأنني في وطننا العربي، أرى الأطفال بلا ثمن،
تحاصرني صور ضحايا الإرهاب، وضحايا الإهمال والمرض، وضحايا التحرش، وضحايا الغدر والحروب، فتنسحق أعصابي تمامًا
أمام صورهم الملائكية الصغيرة، تذوب خلايا قلبي وجعًا عليهم وقلقًا على صغيرتي.. وأتيقن أكثر أن قلبي خرج ولن يعود.

منذ سنوات كانت تمر أمامي مشاهد مماثلة، كنت أتألم من الداخل، ولكنني أتماسك وأتعامل باحترافية الصحفية التي يجب أن تنقل الصورة
كما هي. اليوم لم أعد أستطيع القيام بنفس الدور.. الآن أنا أم، تنهمر دموعي بحرقة بلا توقف على كل طفل كأنني أمه، تمامًا كأمه.

منذ أيام قريبة، بكيت وفاة الطفل "يوسف" الذي أُصيب برصاصة غادرة، لمجرد وقوفه أمام مطعم يشتري أكلة يحبها، بكيت يا "يوسف"
حتى آلمتني عيناي، بكيت بحرقة لم أعهدها في نفسي سابقًا، كنت أترقب شفاءك مع الآخرين، أدعو لك يوميًا بقلب أم أن يتم الله عليك
وعلى أمك نعمته ويردك لها سالمًا، كنت أتلهف لسماع أخبار عن صحتك، ملامحك الملائكية المألوفة جدًا لي زادت الأمر صعوبة،
وبمشاعر أم تقبلت خبر زفافك للجنة، بكى قلبي وجعًا، ولم تكن دموعي قد جفت قبل "يوسف".

حين بكيت أطفال رحلة دير المنيا، ملائكة السماء، اعتصر قلبي مع كل صورة ومشهد مرّ أمامي، تخيلت ضحكاتهم وفرحة أعينهم
وحماسهم في بداية الرحلة، واقشعرَّ جسدي ألمًا لمجرد تخيل صرخاتهم وفزعهم وموتهم رعبًا قبل الرصاص، أتخيل كم أم ماتت وهي
على قيد الحياة! نعم ماتت، فقلوب أمهاتهم أيضًا خرجت لصدورهم وقت الولادة.

هل يوجد ألم أكثر من الشعور برصاصة في قلبك ستظل حيًا بها حتى يقضي الله أجلك؟! رصاصة تتوسط قلب أم صعد طفلها للسماء ولم
تضمه لآخر مرة أو تحصل على عناق وقبلة وكلمة ماما! يا الله.. وحدك تعلم مدى هذا الوجع، فأنزل سكينتك ورحمتك على قلوبنا
وأرواحنا.

لم يخبرني أحد قبل الولادة أن قلب الأم لا يعيش فرحة كاملة أبدًا، لا يعيش إلا مصحوبًا بالقلق والخوف والخِفة.

أنظر إلى "فريدة" ملاكي النائم، كيف أربيها والقلق والخوف يأكلاني عليها يوميًا، وكيف هي شجاعة حد الاندفاع وقوية حد الجراءة،
تتجلى فيها صفات قلبي واضحة، تتجلى فيها صفات ومشاعر أتمنى عودتها ولو ليوم واحد فقط، ولكنني الآن أم بقلب أم.

المقالة السابقةتعديل سلوك الطفل والتخلص من فعل رمي الأشياء عند الغضب
المقالة القادمةالإيمان منزل متعدد الغرف
باسنت إبراهيم
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا