يا الله.. ذلك الحبل الموصول بيننا، أمسكتُ به، وتأرجحتُ قليلاً وأنا واثقة تمام الثقة أنك لن تُفلِتَني، تأرجحتُ كطفل يحلو له اللهو، رأيت وأنا أتحرك أبعادًا أخرى غير طريقي المرسوم بعنايتك الإلهية، وتساءلتُ كثيرًا حتى أرهقتني علامات الاستفهام، ولم يردني أحد. تمسكت بالحبل أكثر، وزدت من قوة الدفع لأرى أكثر، حتى جرح الحبل يدي، لكني لم أتألم.
رأيت النور يا الله، رأيت الحقيقة خلف المستور، حينها أحببت التأرجح بذلك الحبل، لأني مع كل اندفاعة كنت أرى نورًا جديدًا. أدركت حينها أن هؤلاء الذين سلكوا طريقًا واحدًا وأغلقوا على أنفسهم كل الأبواب وكل المنافذ لن يروا النور أبدًا. حين نؤمن بالله ونمسك بالحبل جيدًا، يمكننا أن نرنو ونسمو بأرواحنا إلى أي مكان، ما دام هذا الحبل موصولاً فلن يصيبنا سوء.
ولكن.. لماذا وقف “باي” بطل فيلم “حياة باي” صارخًا في عرض البحر الهائج “أنا آسف.. أنا آسف”، رغم أن ذاك الحبل موصولاً بعدة طرق لا طريقًا واحدًا. هل كان يظن حقًا أن الله عليه أن ينجده الآن، فقط لأنه يحتاج إلى المساعدة؟! لماذا نظن باستمرار أنها علاقة من طرف واحد وليست من طرفين؟
ندعو الله بكل بساطة فيستجب. ماذا يحتاج الله منا؟ في ظني هو لا يريد منا سوى حبه، لذا فإن “باي” كان بحاجة لدرس حتى يرى النور المبين. في فيلم “حياة باي” كان البطل الهندي طفلاً كثير التساؤلات، ولد لأبوين هندوسيين، لذلك كان يدين بالهندوسية بكل آلهتها، لكن يبدو أنها لم تكن كافية ولم تشفِ صدره، فبحث عن الله في مكان آخر، وساقته الأقدار إلى المسيحية، ذهب للقس وسأله عن معاناة المسيح، ولماذا فعل الله به ذلك على يد أناس عادية.
أجابه القس “لأنه يحبنا، فنحن كبشر لا نستطيع فهم الرب ولا نستطيع فهم فكرة كماله، لكن بوسعنا فهم ابن الرب ومعاناته لكوننا إخوة. الله يحب هذا العالم لدرجة أنه وهبه ابنه الوحيد”. ذلك الطفل شكر إله الهندوس الأعلى لأنه عرَّفه على المسيح الذي زرع حب الله في قلبه.. هكذا بكل بساطة بلا تعقيد. ثم ذهب ليبحث عن الله في مكان آخر حتى اعتنق الإسلام. هذا الطفل أدرك أن فكرة الأديان ما هي إلا وسيلة، وأن الغاية هي حب الله.
تدور أحداث الفيلم حتى يجد “باي” نفسه وحيدًا في عرض البحر، بعد أن غرقت سفينته وفقد أسرته وكل الحيوانات التي كان قائمًا على تربيتها، باستثناء النمرالمدعو “ريتشارد باركر”، الذي أكمل معه مغامرته. كان “باي” يتساءل: لماذا يتركه الله في عرض البحر مع نمر؟ حائرًا بين كونه روحًا عليه إنقاذها وكونه حيوانًا مفترسًا سيجوع وربما يلتهمه عاجلاً أو آجلاً؟
فكرة الموت المحتم مؤلمة في حد ذاتها، لكن الأكثر إيلامًا أن تعيش منتظرًا الموت، الخوف يمكنه أن يهزم الحياة، إلا إذا كنت مؤمنًا. “باي” كان مؤمنا لدرجة أنه صاغ لنفسه مصالحة بين الأديان، بعيدًا عن تلك الصراعات التي يتخذها البعض، وكان يرى أن الإيمان منزل متعدد الغرف فيه مساحات كثيرة للشك، ولكن هذا الشك مفيد لأنه يجعل الإيمان حيًا، ونحن كبشر لا يمكن أن نعرف قوة إيماننا إلا بعد اختبارنا.
لذلك فإنه فطن أن “ريتشارد باركر” النمر هو سر بقائه على قيد الحياة. قال: “لولا ريتشارد باركر لكنت ميتًا الآن، خوفي منه جعلني يقظًا، وميله إلى رغباته جعل لحياتي معنى، علمني أن أهم درس في الحياة هو عدم فقدان الأمل”. عندما تشاهد الفيلم ستسأل نفسك: هل نجا “باي” لأنه كان ذكيًا.. أم لأنه كان مؤمنًا؟ أطرح التساؤل وأتذكر تلك القصة الجميلة التي تطيب خاطري كلما قصصتها:
زرع أبي شجرة في صباه، اعتنى بها وسقاها حتى كبرت ومتن جذعها، مات أبي وبعد عدة أيام حزنت الشجرة وانكسر جذعها ثم سقطت وماتت. قل ما تشاء، قل صادف أجلها أجل أبي، قل كانت مريضة وستموت عاجلاً أو آجلاً.. قل ما شئت، ولكني اخترت أن أصدق حزنها على أبي ووفاتها من بعده.
في فيلم “حياة باي” الشهير، طلب كاتب من “باي” أن يحكي له قصة تجعله يؤمن بالله، فحكى له “باي” قصتين، إحداهما خرافية ساحرة صعبة التصديق توحي أنه نجا لإيمانه، وأخرى عقلانية مملة فيها حقائق يسهل تصديقها، توحي بأنه نجا بسبب ذكائه. ثم سأله في نهاية الفيلم: قد حكيت لك قصتين فأيهما تصدق؟
أخبره أنه اختار القصة الساحرة. قال له “باي”: هكذا هو الإيمان. قد يبدو أحيانًا صعب التصديق، ولكنه يتغلل في أعماقك دون أن تدري. بعضنا ينظر إلى السماء نظرة عفوية كي يخاطب الله ويشعر بالرد يسري في دمه، ويسبب له قشعريرة ما، والبعض يرى الله في وردة نبتت وسط الصخور، وغيره في موجة تخطت حدودها لتلمس بعض رمال الشاطئ في سباق.
فأيًّا كانت الطريقة التي ترى بها الله فهي طريقتك..المهم أنك تراه وتستشعر وجوده فحسب. يا الله.. سألتك من أنا. فأجبتني بأني أنا أنا. مددتُ يدي إليك فلم تردني متعبة، وعلمتني بأني أنا هي، أنا بتجربتي الفريدة معك، وليس عليّ أن أكون غيري لأرضيك يا الله. فبكل الحب شكرًا لك.