من بعض المعاناة يخرج النور والوَنَس

327

يصل بي الأمر في بعض الأحيان للعجز عن التنفّس، فقط التنفس.

يصبح أخذ نَفَس داخل وتسكينه في صدري عسيرًا، فتأتي أنفاس قصيرة متلاحقة لتزوّدني بمجرد هواء للحياة، بينما أنا أقل من أن أحيا.

أخيرًا، يصدر الأمر في عقلي بأن أهدأ، لا داعي للخوف، لا داعي للتوتر. أنا في مكان آمن نسبيًا، سأكون أفضل.

 

أصل من الخارج -عبر ثلاث سيارات أجرة- لحافة سريري، فأتهاوى على الأرض وظهري للفراش، مربعّة بجوربي الصوفي الذي لا يدفئني، أحاول التنفس.

أتجاوز أمي، التي ما إن رأتني حتى بدأت في مونولوج طويل عن حوارها الحادّ الأخير بينها وبين أخي، وكيف أنها تعاني في إفهامه حقائق منطقية. أربّت على كتفها وأمضي لحجرتي بلا كلام، لأن أي محاولة لفتح فمي ستنتهي بالتقيؤ على أرضية المطبخ.

هكذا، تمضي بعض أيامي، وهكذا أيضًا، أتشكّل.

 

ترغمني بعض الآلام على الكتابة. في الحقيقة، أهرب من كل شيء إلى الكتابة. ليس لي طقوس معيّنة وإن حاولت ذلك، لكن يساعدني في كثير من الأحيان أن تكون حياتي ثابتة نسبيًا، دون تقلبّات كثيرة عنيفة.

طبعًا هذا لم يحدث طوال الوقت. ففي زمن ما، آمنّا بقدرتنا على مطاردة الحلم واصطياده لتحقيقه، فخرجت جموعنا متحمسة، تشير للشمس وتقول سنحلّق، سنصل. ما حدث أن بعضهم حلّق فعلاً، لكنهم تجاوزوا الشمس ووصلوا لسماوات أعلى منّا بكثير.

 

في زمن تالٍ، كان الخوف هو السمة، هو العنوان، هو الحالة السائدة. سادت وحوش تكسر بخطوها الأرض فيئنّ الطين وتنطفئ الزهيرات الدقيقة، وتغادر الطيور الصغيرة السماء فوقهم فزعًا، بينما يعمّ جورهم الأرجاء، ويختفي الأنقياء الحالمون.

 

في أزمنة أخرى متعاقبة ولم تنتهِ بعد، ينتشر الظلام وتتوارى الشمس وتختفي الطائرات الورقية الملونة، لأنها تخشى لو انقطعت خيوطها أن تستقر بها الحال فوق قضبان ينطوي خلفها كسير لا يأمل للخروج سبيلاً.

 

بعد كل هذا وذاك، هربت للكتابة.

جاءت كتابتي ملوّنة، مليئة بالرسوم الكلامية، كهذه تمامًا. تماهيت مع الكلمات فأخرجتها من أعماقي، قلت كل شيء بلا كثير انكسار كيلا أسبب ألمًا للقارئ. النتيجة أني لم أفلح تمامًا وخرجت كلماتي مؤلمة.

كانت لنا أجنحة فحجّمناها وقنعنا بمكاننا على الأرض بجوار السور، وكان أن كتبت عنها، فخرجت مؤلمة.

لم أقصد هذا كله، لم أقصد الكتابة لكني كنت سأنفجر، ولم أقصد الإيلام لكني عانيت من الألم أنا نفسي، فلم يخلُ قلبي من نداءٍ للمشاركة.

 

يقول كثيرون إن كتابي خرج مؤلمًا، لم يحتمله بعضهم، لكن أغلبهم شعر به يلمسه، يحادثه في مناطق معينة. شعروا به يناديهم فيكلمهم عن أمور ويضع اعتبارات لعلامات ويثرثر في آذانهم بأشياء، وهم يصغون له أثناء محاولتهم للنوم أو الطهي أو تمضية الوقت في المواصلات. يقولون إنه يدفئهم.

 

أثناء كتابتي لعزيزي معلوم الهويّة، كنت أحكي له عما يهفو به قلبي، وعما أتذكره من لقاءاتنا معًا. أجترّ تلك اللقاءات القليلة وأعيش عليها، وأسمع أم كلثوم تغني “فكروني” فأبتسم، وأواصل الكتابة.

 

تقول عزيزات إلى القلب إن حديثي معه في الكتاب آنسهنّ. يتدفأ قلبي لثانية، وأبتسم.

ربما ليس كتابي أروع الكتب، لكنه خرج صادقًا على ألمه، مؤنسًا على شدته في بعض المواضع.

أنا لا أزكّيه، فقط أحكي إنه من بعض المعاناة يخرج بعض النور والوَنَس.

المقالة السابقةلسه جميلة ..عرض ازياء محاربات السرطان
المقالة القادمةالوحش الخبيث

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا