معيلات يتحدين الفقر بمهن  غريبة وقاسية:”نساء فى ثوب الرجال”.

635

فى شوارع المحروسة، مثل موج البحر تتهادى النساء من الصباح الباكر وحتى منتصف الليل إلى أشغالهن، من كل الفئات والطبقات تجدهن بحركاتهن الناعمة وضجيجهن الهامس الجميل الذى يضفي بعضا من السكينة والحنان الخفى، ولكن هناك نوع واحد كالنمل لا يلاحظه أحد يسرن بخطوات كبيرة مسرعة كأنهن فى سباق مع الزمن، صامتات ولكن ملامحهن تتحدث بالصبر والقلق فهن يحملن فوق عاتقهن حمل تنوء به الجبال، هن السيدات المعيلات اللاتى نتيجة غياب الزوج بسبب المرض أو الطلاق أو الوفاة أو حتى الهرب اضطررن إلى تحمل المسئولية كاملة وحدهن، ولعب كافة الأدوار من تربية وتعليم ورعاية أسرة وإنفاق عليها، كل ذلك رغم الفقر الشديد وغياب التعليم أو الخبرة، فلجأ بعضهن إلى وظائف الرجال، والآخريات اضطررن لقبول وظائف قاسية ومنهكة وآملهن فقط هو الاستمرار فى الحياة والعبور بأبنائهن إلى بر الأمان. وهنا نحاول تقديم ذرة من قصص تلك النسوة اللاتى لا يعرف أحد عنهن شيئا مثل :

قشطة” سواقة الميكروباص. أنثى فى ثوب الرجال.

مازلت أتذكرها، بجلبابها الأسود الفضفاض وطرحتها ذات اللفة الصعيدية، ووجهها الضاحك بملامح سمراء آسرة، كانت تجلس على مقعد القيادة فى “ميكروباص” صغير كـ”سائقة”، اعتبرتها” قشطة” مهنة تواجه بها عالم قاس لا يرحم ضعفها هى أوابنها أو والدها المسن، فقد تخلى عنها طليقها ورفض الأنفاق عليها، فصارت أنثى بعضلات رجل، أنثى تقوم بواجباتها فى رعاية شئون المنزل من طهى وتنظيف وغيره وأم تبث الحب والحنان، ورجل ينفق على البيت ويقدم السند والعون لمن حوله.

وسط الرجال تقف “قشطة” يوميا، تنظف “الميكروباص” أوبمعنى أدق سيارة والدها القديمة، ثم تنتظر الركاب، تحكى عن تعرضها للتحرش مرات ومحاولة الخطف والقتل مرات أخرى وفى كل مرة تثبت “قشطة” الأربعينية أنها امرأة بألف رجل وليس مائة فقط، فقد زوجت ابنها الوحيد ومازالت تدفع حتى الآن أقساط تجهيزه، وترعى والدها المريض الذى كان سببا فى زواجها رغما عنها من رجل يكبرها بـ24 عاما.

“أم علاء “. كبدى على ولدى انفطر

كالشجرة الباسقة التى تمتد فروعها لتحمى من حولها وتتعهدهم بالرعاية بينما تتلقى هى ضربات الحياة كانت حياة “أم علاء”، ففى الأسكندرية تسكن فى أحد البيوت البسيطة، وبعد مرض زوجها بسبب سقوط سور مدرسة عليه خلال عمله كـ”فواعلى” اضطرت إلى البحث عن عمل ولم تجد سوى صنع العيش الفلاحى يدويا لعدم امتلاكها عامل الخبرة أو التعليم.

بلا كلل أو ملل تجلس”أم علاء” أمام حرارة فرن قاتلة لمدة 14 ساعة يوميا من أجل إعداد العيش الفلاحى، والتى تعد مهنة نادرة بدائية بسبب انتشار “الفرن الأفرنجى”، ولا تفكر لحظة واحدة فى نفسها فلو فعلت ذلك لمات”كوم اللحم”- أو أبنائها الخمسة اللذين تحملهم رقبتها، وتتحمل مسئولية الأنفاق عليهم كاملة منذ 20 عاما، أما عينها اليمنى التى فقدتها بسبب الحرارة، وظهرها الذى انحنى تماما ولم تعد تستطع الوقوف منه فلا تراهم سوى ثمن بسيط تدفعه من أجل أسرتها.

أحلام ” تبحث عن النور فى حياتها بـ”لمبات الجاز

من الصعيد جاءت أحلام مع زوجها إلى القاهرة، وبداخلها مصنع للأحلام أبسطها حياة سعيدة هانئة، ولكن كل ذلك تبخر مع زوج توفى بعد ذلك بأعوام قليلة، و9 أبناء وجدت نفسها مسئولة عنهم وحدها، بلا أى مصدر مالى أو معاش يسندها، فاختارت بيع”لمبات الجاز” لمواجهة الفقر الذى يحيط بها ويكاد ينهش أولادها واحدا تلو الآخر،

وفى شقة صغيرة عبارة عن “أوضة وصالة” فى بولاق لمت “أحلام” أبنائها حولها 25 عاما يذوقون اللحوم مرة كل شهر، أما هى فتحرم نفسها من كل شئ من أجلهم فصارت كالماكينة التى لا تتوقف فى رعايتهم، وبداخلها حقيبة من الوجوه لمواجهة أى أزمة فهى مرة أم بدوام كامل، وتارة امرأة مناضلة، وتارة أخرى أب غائب عليها أن تملأ مكانه الشاغر بحزم وصرامة، وبجانب ذلك كله، تراعى عملها الذى تصفه بأنه “على كف عفريت” فعلى الرصيف قد تتعرض فى أى لحظة للأهانة من مار أو للزجر من شرطى، حتى أستطاعت أن تزوج ابنائها جميعا.

ولا تنتهى القصص ولا تتوقف الحكايات لنساء معيلات بطلات ولكنهن مجهولات، يخترن البذل والعطاء سبيل لحياة غيرهن، بأقدام ثابتة فى الأرض كالجذور، وأجساد منهكة ولكنها كفروع الأشجار تنظر للسماء بكبرياء يحمين أسرهن، ويثبتن أن النساء دوما كن وعاء للحياة حتى وإن غاب الرجل.

المقالة السابقةسينجل ماذرز السينما المصرية بين الأمس واليوم
المقالة القادمةد/ المهدي يتكلم عن تزايد حالات غياب الأب
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا