د/ المهدي يتكلم عن تزايد حالات غياب الأب

281

 

هل فكرت في الحالة النفسية، التي تكون عليها امرأة معيلة، أو -بمصطلح أكثر شيوعًا- “سينجل ماذر”، هؤلاء ممن مات أزواجهن، أو طُلقن، أو ربما يعِشن مع أزواجهن تحت سقف واحد، دون مشاركتهم لهن في أي مسؤوليات تُذكر تجاه الأبناء. وبعيدًا عن الهيئة، التي تتخِذ من الصلابة والقوة قناعًا تحتمين به من نظرات الناس وأفكارهم وقبيح ظنونهم؟ وما هو تأثير تلك الحالة النفسية على الأبناء الذين تقوم الأم في حياتهم بدور الأم والأب معًا؟

 

يقدم الدكتور محمد المهدي (أستاذ الطب النفسي ورئيس قسم الطب النفسي بطب دمياط جامعة الأزهر، وعضو مجلس إدارة الجمعية الإسلامية العالمية للطب النفسي)، دراسة حول غياب دور الأب وزيادة ظاهرة “السينجل ماذر”.

 

بدايةً تعريفًا “للسينجل ماذر”: هي امرأة تعيش تحت وطأة ظروف اجتماعية خاصة، تسببت في تعرضها لحالة نفسية سيئة، نتيجة للحرمان من حقوق طبيعية كثيرة، منها العاطفية كالشعور بالأمان والحب والتقبل والانتماء، ومنها الجنسية والحاجة إلى شريك في الحياة، مشيرًا إلى أن فئة ممن تنتمين لـ”السينجل ماذرز” تقصدن العيادات النفسية، تشتكين من نظرة المجتمع القاسية لهن، والتي حرمت نسبة كبيرة منهن من الحياة بشكل طبيعي.

 

وحول الأسباب الحقيقية لارتفاع أعداد “السينجل ماذرز” في المجتمع، أشار المهدي إلى أن “نسبة الطلاق ترتفع منذ عدة سنوات، بسبب عوامل مختلفة، لكن العامل الأهم الذي نرصده الآن هو التغيير في تركيبة الشباب والبنات، فالبنات أصبحن أكثر استقلالية وقوة واعتمادًا على أنفسهن وأكثر توكيدًا لذواتهن. في التعليم والوظائف العامة نجد أن عدد البنات أكثر من الرجال. هذا الصعود صاحبه استقواء من البنت. في الوقت الذي حدث فيه صعود أنثوي في المجتمع، حدث هناك هبوط رجولي، فالشاب أصبح أقل نضجًا من الفتاة، وعندما يقترب الاثنان من بعضيهما يجد الشاب أنه أمام فتاة تعامله بنِديَّة، لا يجد فيها الخضوع الأنثوي المُبتغى الذي يبحث عنه، والذي تعطيه المرأة برضا وحب”.

 

“هنا العلاقة يصبح فيها نوع من أنواع التنافسية، بدلاً من التراحمية المبنية على المودة، وهذا يدفع نسبة كبيرة من الشباب للتفكير في الانفصال والهروب سريعًا حتى في مرحلة ما قبل الزواج”.

 

واستطرد الدكتور محمد قائلاً: “تظل نسبة من هؤلاء تحاول الوصول بالعلاقة لبر الأمان، لربما تتغير الأمور بعد الزواج، إلا أن بمجرد الزواج تبدأ عجلة الصراعات والخلافات في الدوران، فالبنت لا تحتمل أي درجة من التوجيه لأنها تعودت على الاستقلال، كما أن الزوج -في بعض الحالات- لا يملأ عينيها، وبالتالي لا تستطيع إعطاءه الاحترام الكافي، وهذا يتسبب إما في وقوع الطلاق مبكرًا، وإما سفر الزوج هروبًا من مواجهة الفشل أو استمراره في حياة لا يبالي بها، ملقيًا كل المسؤولية على عاتق الزوجة، كنوع من معاقبتها”.

 

مضيفًا: “بالإضافة لإدمان الشباب على المواقع الإباحية لفترات طويلة، الذي يؤثر على الصفات الرجولية والتوازن الهرموني ومراكز المخ المسؤولة عنه. وأيضًا إدمان الإنترنت والتصفح العادي بصورة مرضية، الذي يتسبب في حالة من وهم المعرفة، بدلاً من تكوين خبرات وعلاقات حقيقية”.

 

وبسؤاله عن الطلاق خلال السنة الأولى من الزواج، والتي يلاحظها من خلال الحالات التي يقابلها، أكد المهدي أنه: “في الماضي القريب كانت أعلى نسبة طلاق تقع في السنة الأولى من الزواج، أما الإحصائيات الحديثة تشير إلى أن النسبة الأكبر في أول ثلاثة أشهر”، مشيرًا إلى أن “الأدهى من ذلك هو أن أهمية الزواج في حد ذاته، لم تعد واضحة عند الجنسين، فأصبح كل منهما يجد سبيله في حياة تلقى رضاه، بعيدًا عن مظلة الزواج التي يرونها خانقة، بحسب أفكارهما وما يستقيانه من تجارب الأصدقاء”.

 

وحول الحالة النفسية التي تكون عليها المرأة المطلّقة في مصر، ومدى تأثير تلك الحالة على أبنائها: أشار المهدي إلى أنه: “بعيدًا عن ملابسات الطلاق، التي تختلف من حالة لأخرى، فإن المرأة المطلقة تعيش داخل سجن كبير اسمه المجتمع ومعتقداته الخاطئة، والذي يعتقد أن المطلقة من المحتمل أن تكون سيدة سيئة السمعة ما لم تمتنع عن التفكير بالزواج مرة أخرى وتَهِب حياتها لتربية الأبناء. في الوقت الذي يتزوج فيه الأب بأخرى وينجب مرة أخرى وتستمر حياته بشكل طبيعي”.

 

مشددًا على أن: “السبب الحقيقي وراء حدوث مشكلات نفسية لهؤلاء المطلقات، وحتى الأرامل، هو فكرة الإجبار التي فرضها عليهن المجتمع، بحيث يصبح الوضع هو نتيجة حتمية لضغوط المجتمع لا لاختيارها الحر، وينتج عن هذا الإجبار حالة من الغضب الكامن لدى تلك المرأة، التي تصب جام غضبها في العمل (إذا كانت تعمل) وتربية الأبناء، الذين غالبًا ما يتأثرون بغياب الأب ونفسية الأم المضغوطة، حيث تحارب احتياجها للأمان والحب لأجل أبنائها”.

 

لافتًا إلى أن: “الولد خلال الـ5 سنوات الأولى من حياته يحتاج لوجود الأب بشكل إلزامي، نظرًا لأن هذه السن هي التي تُطبع فيها شخصيته اعتمادًا على شخصية أبيه، وفي غيابه ووجود الأم، تجد هذا الابن متوحدًا معها، لا سيما إذا كانت تمر بظروف نفسية صعبة. وعليه، قد يتعرض هذا الولد لنوع من أنواع الاضطرابات الجنسية، وفي سن المراهقة يبدأ بالتمرد عليها نظرًا لشدة حاجته لأبيه خلال هذه المرحلة الحساسة من عمره.

 

واستطرد المهدي قائلاً: “أما البنت فالأب بالنسبة إليها هو النموذج الأول والأهم للرجل، تعرف من خلاله كيف تتعامل مع الرجل في كل المواقف، وهو بمثابة “البروفة” التي تجعلها تنجح في النماذج المختلفة للرجل في حياتها وخصوصًا في الزواج، وغيابه في وجود الأم فقط يعني حدوث خلل في هذا النموذج، وبالتالي خلل في الاختيارات المختلفة للرجل في حياتها”.

 

وعن مراحل تطور الحالة النفسية للمرأة التي يتهرَّب زوجها من مسؤولية إعالة أبنائه، أكد المهدي أن “الزوجة التي يتغيب زوجها بالسفر هروبًا من المسؤولية، أو يتهرب منها ومن مسؤولياته تجاه أبنائه رغم وجوده، تضطر للحكم على أنوثتها بالإعدام، لتتحول بمرور الوقت إلى أم وأب، فتكتسب خشونة ليست لطبيعتها، وهذا يفقدها حنانها الأمومي، فيستهجن الأبناء ذلك منها ويرفضونه، وتدب المشكلات بينها وبينهم، وبالتالي تصاب بالقلق والتوتر والاحتداد أكثر من اللازم، فتتشوه تركيبتها الأمومية”.

 

مشيرًا إلى أن “تفاقم الخلافات بينها وبين أبنائها يؤدي لتمردهم عليها، فتزداد احتمالية ضياع أفراد الأسرة، بما فيها الأم، التي ترى أنها ضحَّت من أجل أبنائها في غياب أبيهم، وذهب كل ما ضحت به سُدى بضياعهم وفشلهم”.

 

معللاً هروب الشباب من المسؤولية بما سماه سلفًا بـ”الهبوط الرجولي”، وهو الرجل الاعتمادي، وخصوصًا الاعتمادية المالية، فيشترط عمل زوجته وتحمُّلها لجزء من المصاريف.

 

وبناءً على ما أشار إليه الدكتور المهدي، يمكن القول إن الأمومة عمومًا عملية صعبة للغاية، ورغم حداثة انضمامي لقطار الأمومة، لكني أعلم يقينًا أنها عملية غاية في الصعوبة، وباتباع المثل القائل: “إذا أردت أن تحكم عليَّ فضع قدميك في حذائي”، أستطيع أن أنتعل حذاء “السينجل ماذر” لألمس شيئًا ولو بسيطًا من معاناتها، لا سيما من المجتمع، الموجِّه سهامه نحوها.

 

وعليه.. أعتقد أن السينجل ماذر تحتاج من المجتمع -مبدئيًا- نظرة أكثر احترامًا مما هي عليه حاليًا، نابعة من تقديره لحجم وأهمية الدور الذي تقوم به، وسواء كان الموت أو الطلاق أو الهروب من المسؤولية، هو السبب وراء انضمامها لهذا الركب المنهِك فهي بحاجة ماسة للدعم، بداية من ابتسامة الصباح التي تحتاجها لتتجاوز مرارة أعبائها، ومرورًا بمساعدتها على تقبُّل وضعها بدلاً من تصيُّد الأخطاء وتكييل الظنون السيئة لها وزرع العقبات في طريقها، وانتهاءً بتجنيبها تلك الأعين الجائرة والألسنة الفضولية، التي تعكر صفو الحياة، وإن لم تكن بالصفاء الكافي، الذي يكفل لها الرؤية.

 

المقالة السابقةمعيلات يتحدين الفقر بمهن  غريبة وقاسية:”نساء فى ثوب الرجال”.
المقالة القادمةكلنا سينجل ماذر في شوارع هذه المدينة
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا