مدرسة الياسمين الخاصة

397

كنت أجلس على الكنبة المريحة في بيت صديقتي، أرتدي النظارة التي أجبرني الطبيب على ارتدائها بعد العملية الأخيرة، أفكر في شراء كسوة للكنب في بيتي، ونتحدث جميعًا عن دخول المدارس، بنتا أختها كانتا تشاركاني الكنبة، سألتهما على سبيل العادة عن اسم المدرسة التي يذهبا إليها.
“إحنا في مدرسة الياسمين الخاصة”.

أنسى كسوة الكنبة، أخلع النظارة الجديدة، أعتدل في جلستي، وأهتف بمنتهى الهبل، إنتو في مدرسة الياسمين؟ دي كانت مدرستي! طب ميس نجوى لسه موجودة؟ طب ميس سعاد لسه مجنونة وبتضرب العيال؟ مستر سمير الناظر أبو كرش كبير؟ ميس سحر بتاعة العلوم؟

“عزيزي المستمع.. بصبح عليك”.
ينطلق صوت الراديو في البيت، مصحوبًا بهرولة أمي بين غرفتنا أنا وأختي والمطبخ لتحضير السندوتشات التي سوف ألقيها في صندوق قمامة الفصل، واللبن الذي سوف تسكبه أختي في حوض المطبخ قبل أن نغادر.

“تساااااااااااالي.. تسالي..غمض عينيك وامشي بخفة ودلع.. الدنيا هي الشابة وإنت الجدع، تشوف رشاقة خطوتك تعبدك.. لكن إنت لو بصيت لرجليك.. تقع.. عجبي”.

إذاعة الشرق الأوسط هي الرفيق الصباحي الدائم، رفيق تحضير الجدول وسندوتشات المدرسة، رفيق اللبن الدافئ الذي كنت أكرهه جدًا، رفيق الدعاء اليومي على ميس سعاد أن تموت أو على الأقل أن تتغيب اليوم عن المدرسة.

تخبرني الفتاتان أنه لا ميس نجوى هنالك بالمدرسة، والناظر تحول لميس نجلاء الناظرة، ولا يعرفان هذه الميس سحر التي أسأل عنها.

حاولت أن أحسب عدد السنوات التي تفصلني عن الجيب شورت الباذنجاني والقميص البمبي فلم أفلح، ربما كنت أذهب للمدرسة منذ مئة عام؟ ربما ألف؟ كم عامًا يفصلني عن امتحانات الشهر والشهادة المدرسية ذات الغلاف الباذنجاني أيضًا والتي كان مكتوبًا على ظهرها “الذكاء لا يُورّث ولكن يُنمّى”؟

كم مر من الوقت الذي تكفل بألا تكون هناك ميس نجوى لتدريس اللغة الإنجليزية لبنتي أخت صديقتي؟ إذن هل من الممكن أن يتعلماها من سواها؟ هل يمكن لأي مخلوق أن يدرس الإنجليزية مثلما كانت ميس نجوى تفعل؟ هل تدخل المعلمة الجديدة الفصل لتقول لهم “يا ولادي” مثلما كانت تفعل هي؟

في الماضي البعيد، والذي يبدو لي الآن بعيدًا جدًا، كانت هناك مدرسة اسمها ميس آمال، ميس آمال تزوجت عندما كنت أنا في الصف الأول الابتدائي، قبل أن تتزوج وتترك المدرسة، أخبرت أمي أنها ستغادر وأنها ستترك لها رقم التليفون لتخبرها ماذا سوف أصبح عندما أكبر، لم أعترف من قبل أن كلمات ميس آمال كانت لعنة، ما زالت تلك الكلمات تطاردني إلى الآن، لم أعترف من قبل أن كل ما أريد تحقيقه الآن أريده كي لا أفشل، كي أقابل ميس آمال يومًا ما وأخبرها أنني أصبحت “شخصًا ما” في الحياة، لم أعترف من قبل أنني أحاول النجاح كي لا أخذل تلك الطفلة التي كانت المُدرسة تتمنى أن تعرف ماذا سوف تكون عندما تكبر.

هل نجحت؟ هل أصبحت هذا الشخص ما الذي وددت أن أكونه؟

وأنا أجلس على الكنبة في بيت صديقتي، فكرت في ميس سعاد، كنت أود أن تكون ما زالت بالمدرسة كي أذهب لها وأخبرها أنني لم أصنع أي شيء مفيد بجدول الضرب، وأن المسائل الحسابية التي كانت ترعبني لم تعد ذات قيمة، لماذا كنتِ تصرين على أن أحفظ جدول الضرب بكل تلك القسوة؟ لماذا كان عليكِ أن تجعليني أكره الحساب لتلك الدرجة؟ أود أن أخبرها أنني كنت أتخرج كل سنة في الجامعة بتقدير جيد وجيد جدًا في جميع المواد ما عدا الإحصاء، ثلاث سنوات من أصل أربعة حصلت بجدارة على ضعيف جدًا فيها، بسببك أنت يا ميس سعاد، بسبب تلك العصاية الخيزران المطلية بالأبيض والتي كنت ترهبيننا بها، أود لو أخبرها كم أكرهها، أكره أنفها المدبب وجسدها النحيل، أكرهها وأكره الأرقام جميعًا.

متى كبرت لهذه الدرجة؟ إلى الدرجة التي أصبحت أخضع فيها لعملية في عينيّ وأشرب القهوة بإفراط وأناقش زوجي في أننا لو حصلنا على أطفال يومًا ما لن ندخلهم مدارس خاصة، إلى الدرجة التي جعلتني أنسى الدعاء الذي كان يبثه راديو أمي ونحن نستعد للمغادرة كي نلحق بالطابور، إلى الدرجة التي لم أعد فيها أبحث عن معلومات جديدة في جريدة الأهرام كي أقولها في الإذاعة المدرسية في فقرة هل تعلم.

متى كبرت للدرجة التي تصبح فيها ميس نجوى لا تدرس الإنجليزية في مدرسة الياسمين الخاصة، والتي كفّت ميس سعاد فيها عن تعذيب الأطفال.

أتذكر كل شيء بوضوح، أتذكر بسمة الفتاة ذات الشعر الناعم والتي كانت طفلة ميس سعاد المدللة لأنها جميلة، أتذكر مروة التي لم تكن جميلة مثل بسمة فكانت غير محبوبة فضلاً عن أنها لم تكن “شاطرة” بدرجة كافية لتعوّض جمالها المتوسط، أتذكر معتز الذي أجاب على سؤال المدرسة أي الأشياء يأتي في علبة وأيها يأتي في كيس بلاستيكي، فأجاب أن السجائر تأتي في علبة أما الهيروين فيباع في أكياس صغيرة.. وأتذكرني طفلة تريد أن تصبح طبيبة ليس لأنني أحب الطب ولكن لأنني أحب اللغة الإنجليزية والأطباء يكتبون روشتاتهم بها.

لا أمتلك راديو في بيتي، وكففت عن الاستماع إلى إذاعة الشرق الأوسط منذ سنوات الابتدائي، وكبرت، كبرت جدًا للدرجة التي جعلتني أحب اللبن حتى لو كان دافئًا.

المقالة السابقة5 أخطاء تربوية يرتكبها الآباء بسبب المدارس
المقالة القادمةرسالة إلى صديقتي التي في السماوات
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا