رسالة إلى صديقتي التي في السماوات

672

عزيزتي الجميلة.. أنظر للسماء وأفكر فيكِ.. كم كنتِ كفراشة رقيقة تنشرين البهجة من حولك.. كانت ليلة صيف قاسية ثقيلة، وكنت بسذاجتي أفكر في همومي الصغيرة، ثم كي ألتمس بعض السلوى وتشتيت الانتباه عن حالة القلق المزمنة التي تصيبني لجأت إلى صفحات التواصل أو “اللا تواصل” اللعينة، قرأت على صفحتك كلمات العزاء من صديقاتك.. كلمات كثيرة متلاحقة أصابتني بالخوف، يا ترى من فقدتِ من أقاربك؟ هل المُتوفى فرد من أسرتك؟ تابعت القراءة لعلّي أفهم المقصود فأرسل لك كلمات التعزية المناسبة.. البقاء لله وربنا يصبرك يا عزيزتي في فقد فلان أم فلانة، أتابع القراءة لأعرف من سأواسيك في فقدانه أو فقدانها، أقرأ شيئًا يستعصى على فهمي.. صديقاتك يواسين أنفسهن في موتك أنت؟! بالتأكيد سوء فهم.. لكن لا.. الموت ليس به سوء فهم بكل تأكيد.

قالت لي صديقتي منذ سنوات إنه عندما ماتت والدتها ظلت تصرخ في الطبيب، بالتأكيد هي مغشي عليها أو نائمة أو في غيبوبة، أليس لديك تصرف تفعله لإيقاظها بدلاً من كتابة شهادة وفاتها؟ فقط حاول وابذل بعض الجهد.. لعلها تستيقظ مجددًا.

اقرئي أيضًا: أجمل رسالة شكر لصديقتي الغالية

في العادة ننكر موت أحبائنا، خصوصًا لو كانت المقدمات لا تدل على قرب النهاية، نتوقع الموت للعجائز فقط، أما الصغار، فحتى لو كانوا مرضى فإننا نعرف أنهم سيعيشون رغم معاناتهم، وأنت يا عزيزتي لم أتوقع موتك، ما زلت أقرأ في كلمات صديقاتك كأني أريد المزيد من التوكيد قبل أن أذرف دموعي، وتأكدت، لكن لم أستطع البكاء؛ لا أستطيع استيعاب الأمر حتى الآن. أنا خائفة عليك وعلى نفسي، يالحقارة الدنيا وتفاهتها وتفاهتنا! ألتمس بعض الصبر بتذكرة نفسي أنك في الجنة، لكن أعرف أن جسدك ووجهك الجميل تحت التراب وحده في الظلام الآن.. كيف يأتيني النوم وهذه الصورة تملؤني؟ ربما لو كان الموتى يرحلون فتتبخر أجسادهم في الهواء لكان الأمر أهون في تحمله علينا من وضعهم تحت هذا التراب بإيدينا.

والدتك بالتأكيد ماتت لحظة موتك، من الطبيعي أن ندفن آباءنا ونحزن عليهم، لكن أن يدفن بعض الأبناء أطفالهم.. فكرة قاسية جدًا مهما كبر الأبناء أو مرضوا.. فكرة تتعدى في قسوتها الحزن الاعتيادي.

الأصعب يا عزيزتي هو ما تقلنه الأخريات بعد موت عزيزة مثلك، هل يواسين أنفسهن أم يهربن من مخاوفهن ليلتمسن الأمان النفسي بكلمات بعضها حزينة وبعضها جوفاء.. ألا يفكرن قبل الاسترسال في كلمات موجعة؟ ألا يفكرن قليلاً، ألا يحتفظن بنصائحهن الثمينة لأنفسهن؟ للأسف لا يا عزيزتي.

كل الأصوات تدعو لك بالرحمة، الكل حزين ومصدوم لفراقك المفاجئ، لكن سرعان ما تذهب المفاجأة وتبدأ التعليقات والاستنتجات العبقرية الفارغة، يظهر صوت آخر يحمل نصيحة للصديقات على استحياء وقح.. على أساس أن الأحياء أبقى من الأموات، تتلخص النصيحة في ضرورة التزام الصديقات بالحشمة طوال الوقت لأن الموت قد يفاجئهن ولن يلتمس أحد لهن العذر حتى لو كن على شواطئ الساحل الشمالي. صديقتك مشفقة عليكِ من غضب الله يا عزيزتي، لا تراكِ ضحية طبيبك الذي أهمل في عملية جراحية أجراها لك منذ سنوات، ربما هو يستحق العقاب، هو أولى بالشفقة والخوف عليه من حساب الآخرة لأن حساب الدنيا غائب.. فالكل يعتبر ما حدث لك قضاءً وقدرًا.. الكلمة السحرية التي تنجي من الهلاك.

في كل مصائبنا نتخطى مناقشة فكرة الإهمال، نخيف من يتكلم عنه كأنه تطاول على الله ذاته، ثم نأخذ مكانه سبحانه ونبدأ في محاسبة الراحل أو الضحية، ربما لنزيل تهمة عن أنفسنا لم يوجهها لنا أحد، أو ربما بغير أن ندري نتهم أنفسنا، نتحسس البطحة التي على رؤوسنا، أو نطمئنها ونلتمس لها الأمان الداخلي الزائف. بينما ينبري البعض الآخر في التبرير والدفاع عن الموتى من التهم المنسوبة إليهم.. فيسميهم شهداء.. ولا يلتفت أحد للمتسبب في الموت نفسه.

أعلم ياعزيزتي أن الحياة ليس لها ثمن في بلادنا، عرفتِ أنت ذلك بالتأكيد الآن.. وأعلم كذلك أن موتك كان بسبب خطأ طبي غبي لم يكلف الطبيب نفسه عناء الاعتذار عنه ولم يسأله أحد عنه استكمالاً للمزايدة على إيمانهم بالقضاء والقدر وعلى مثاليتهم الفارغة.. لستِ الأولى يا عزيزتي ولن تكوني الأخيرة، فالموتى يقعون فرادى وفي مجموعات، يهنئهم البعض أو يشمت بهم، يوزعون رحمة الله وغضبه حيثما يشاؤون، متناسين أن وراء كل فقيد غيّبه الموت مخطئ أو مهمل، تنقذه عقولهم وكلماتهم الفارغة من العقاب الذي يستحقه.

المقالة السابقةمدرسة الياسمين الخاصة
المقالة القادمةكيفية تزيين الكراريس من الداخل لجعل المذاكرة أمتع للطفل
سمر طاهر
مترجمة ومحررة أخبار بالإذاعة، وكاتبة سيناريو، وعضوة في اتحاد كتاب مصر.

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا