خلف هذا الظلام الحالك، الذي يكسو الفضاء من حولي، تختبئ جرذان صغيرة، متوحشة، ورغم ضآلة أحجامها فإنها تعد عُدتها من أجل هجوم جديد، تشنه عبر دوائر الرصاص السامة، المسماة مجازًا بـ”الأعين”، وسياط الجَلد النهمة بتعذيب الأرواح، التى جرى اختصارها بـ”الألسن”، ولو أنك اختبرت يومًا أحد التعليقات السلبية على كلمة قُلتها بعفوية، أو هيئة كنت عليها -محض اختيار أو صدفة- ستؤمن بأنها سياط حقيقة لا مجاز.
يقول الروائي “تيري براتشيت”: “لن يكتمل جمالك بلا أنفك، لذلك تذكر: أنفك مكانه المناسب في وجهك، وليس في حياة الآخرين”. لكن هل يهتم الأشخاص حقًا بتحسس مواضع أنوفهم كل صباح؟
شخصيًا أشك في ذلك، لأني لا أفعل، وأحيانًا أضبطه متجولاً في شأن ما لا يخصني البتة.
ما زلت أذكر ذلك الصباح االبارد، الذي استدعيت فيه للتحقيق في أمر المصاريف المدرسية التي لم تُدفع بعد، لأجيب المدير بالنفي “لا أنا دفعت المصاريف والله”، فيرد منفعلاً وبنبرة حادة: “وإنتي تدفعي مصاريفك لوحدك ليه؟ إنتي أبوكي معاه فلوس تبني 10 مدارس زي دي”، ثم يُخفض صوته قليلاً بحيث أتورط في سماعه دون أن يبدو ذلك مقصودًا، موجهًا كلامه لمسؤول الأنشطة الاجتماعية: “بيت جدها امبارح اتسرق منه 5 مليون جنيه، دول ناس الفلوس على قلبهم قد كده ومش حاسين بالغلابة”، لأنصرف بعدها وقد شُحنت بمشاعر سلبية، لا قدرة لمن في مثل عمري وقتها أن تفسر أسبابها: ما العيب تحديدًا في أن يكن والدي ميسور الحال؟ ولمَ قد يستفز ذلك أحدهم ليجزم بعدم شعوره بالغلابة؟
يومها توجهت لمقعدي بروح مشحونة بالأسى، تتسارع الفراشات السوداء لتجد كل منها موقعًا من رأسي الصغير، ورحت أبحث عن إجابات شافية لأسئلتي، حتى ارطتم شرودي بسؤال طائر، صوَّبه المدرس نحوي بعين فضولية متنمرة: وباباكي بيشتغل إيه بقى يا منى؟ لأجيبه: “صاحب معرض سيارات”، فيرد على إجابتي المقتضبة بتحليل: “آه يعني معَلم بقى وبيلعبله في كام مليون! طب وإيه المشكلة إنه يدفع مصاريف للطلاب المحتاجين؟ ولا هو مش متعلم وميعرفش قيمة العلم؟”، لأجيبه بوجه مكفهر من الخجل وأذن متجمدة من هول ما خاطبها: “لأ مفيش مشكلة، بس أنا محدش طلب مني ده قبل النهارده والله”.
ينتهي العام الدراسي ويبدأ آخر، فيأتي مسؤول الأنشطة الاجتماعية ذاته، وفي يده حفنة من الأوراق البيضاء الملوثة بالحبر، وما أن يأذن المدرس له بالدخول حتى ينادي: منى أحمد عبد الله.. أقف وقد تجمد الدم في أوصالي مجيبة: “أيوة أنا”. فيقول مبتسمًا: “سَقفوا لزميلتكم، المدرسين صوتولها عشان تكون الطالبة المثالية، وده ملوش علاقة بفلوس أبوها خالص، مش بالواسطة يعني”، فيسقط الجميع في دوامة من الضحك، بينما يأكل النمل ساقي من شعور الخدر والخجل.
ما العلاقة؟ وهل لي بمرة أُذكر فيها بمنأى عن نقود والدي؟ وما الذي وضعها -عمومًا- في جملة مفيدة في مكان منوط به أن يطعم فضولي ببعض لقيمات الإجابات، لا أن يشحنه بمزيد من الأسئلة الجائعة التي لا تجلب سوى الفراشات السوداء.
تمضي الأيام وأمضي معها بعيدًا عن تلك الدائرة التي تضعني على الدوام في جملة مفيدة مع أبي -وإن لم تستدع الضرورة- ومع ماله، مع معارفه، مع مقدار ما حصل عليه من علم وما خاضه في الحياة من معارك. وخلال خطواتي الأولى بالحياة العملية، التي قررت خلالها أن أكون كيانًا مستقلاً حقيقيًا، بحيث أعتمد على نفسي كليةًّا، لا أمد يدًا لوالدي الذي قال لي قبل مجيئي: “مش هينوبك من البهدلة دي إلا وجع القلب، وبكرة تفتكري كلامي”.
جلست أتحدث مع أحد مدرائي وأشكو إليه عدم تقديري ماديًّا بالشكل الكافي، رغم زيادة المرتبات في المؤسسة عمومًا، ليفاجئني بضحكة ساخرة قائلاً: “يا بنتي إنتي محتاجة المرتب في إيه أساسًا؟ إنتي أبوكي من أعيان البلد، بلاش كلام الموظفين ده بقى”.
حينها، وحينها فقط، انتبهت بعد عمر -أحسبه عمرًا لصعوبته- من الغفلة، لِم كان هذا المدير تحديدًا، رغم إشادته بدأبي يتعامل معي بإقصاء في كل ما له علاقة بتوزيع المهام وتحريك أحجار المسؤولية في المكان! إذًا هو لا يرى في أكثر من فتاة مدللة لأب ثري، الفرصة بالنسبة لقاموسها كلمة اعتيادية، هذا إن انتبهت لها. لا تحتاج للدعم وإن استحقته فعلاً، ولنوفر هذا الدعم لأخرى كادحة، تحارب والظروف بعضهما بعضًا وتسعى وراء فتات الفرص.
لم يصلني شيء واضح المعالم من موقفه، لكني اطلعت يومها على ما يختلج في ضميره نحوي من تنمر غريب، ليحلق تساؤل جديد رفقة فراشة سوداء جديدة: لمَ؟ وما السر وراء تلك النظرة المحتكرة للكفاح؟ من قال إن أبناء الأغنياء لا يكافحون؟ من قال إنهم ليسوا في حاجة لفرصة إن استحقوها؟ من أجاز التنمر بهم وشرَّعه؟
تمر الأيام كومضات على الطريق، وترسل لي إحداهن صورة لمنشور كتبته إحدى الزميلات قبيل محوي من صفحتها على فيسبوك، وقد عبرت عن حنقها الشديد لأني -بحسب ما عبرت- لا أعترف بفضل زوجي عليّ بإشراكه لي في العمل ضمن فريقه، متسائلة: “لما يبقى كل برنامج له اسمها فيه وتقول إنها مش مستفيدة منه وتنكر يبقى عيب”، والحقيقة أن المنشور نفسه لم يزعجني، لأنه أبعد ما يكون عن الحقيقة، ما أزعجني كان إحياء الفكرة القديمة للتنمر، فكرة أن أكون دومًا ظلاً لهيكل ضخم، تتضاءل أمامه كل مساعيَّ وجهودي لتستحيل إلى لا شيء.
تُحلق الفراشات السوداء من حولي دون فائدة، وتتكاثر الأسئلة العقيمة: من أين أخذ هؤلاء جميعًا تلك الصلاحية بالحكم علي؟ من أين لهم بكل هذا اليقين أنني لست في حاجة للكفاح والكد؟ وأحيان كثيرة أنصاف الفرص؟ من أعطى لكل هذه الأنوف الغائرة الحق في الدلوف إلى عوالمي دون وجه حق؟!
تتقدم الجرذان أكثر وتتكاثر الفراشات السوداء، لتمضي الحياة ويمضى ثلاثتنا معها، مستمرين في دوامات تنمر، يحيكها دومًا الضعفاء بلا توقف.