(1)
كنت أجلس في ركنٍ بعيد، أراقب الناس وكأنما أراهم من وراء لوح زجاجي كبير ممتلئ بالغبار، لا تتضح لي معالمهم أو تفاصيلهم، وإنما أراهم بشكل ضبابي للغاية، ولم يعبأ عقلي بتفسير الأمر، لأنه لم يكن يفكر سوى في تساؤل واحد فقط، يعمل ويعمل ويعتصر مداركه للإجابة عليه، هل أنا هنا فعلاً؟ هل هذا يحدث؟ هل توُفِي أبي حقًا؟ هل كل هذا النواح والبكاء في سرادق عزاء أبي؟
أبي.. لقد كنت معه منذ بضعة أيام بالمشفى، كانت ابتسامته رقيقة للغاية، ارتديت طاقم العيد خصوصًا لكي أريه له، لأن الفرصة لم تسنح له ليراني به مذ سفره في رمضان وعودته بعد العيد على المشفى مباشرةً، أعجبه كثيرًا، فلطالما أحب اللون البنفسجي، ألن أراه ثانيةً فعلاً؟ لِمَ لا أستطيع تصديق الموقف؟ مع أنني أنا التي تلقت خبر وفاته، نعم، أذكر هذا المشهد بوضوح، كنت نائمة، رن هاتف منزلنا، نظرت إلى الساعة لأجدها الرابعة فجرًا، مشيت في كوريدور البيت إلى أن وصلت إلى الهاتف، شعرت لأول مرة أن رنينه مزعج للغاية، يُقبِض قلبي بشدة، وحين رددت أخبرني أحدهم أن أبي قد لاقى ربه، كان صوته جافًا جدًا، ظللت أمسك بالسماعة برهة دون أي رد، إلى أن كرر الأمر على مسامعي، فأغلقت الهاتف وأنا محتارة في أمري، لم يستعب عقلي الصغير آنذاك الأمر.
ظللت أتساءل، هل أوُقِظ أمي في هذا الوقت المتأخر على خبر مثل هذا أم أنتظر للصباح؟ إن الأمر يبدو مهمًا للغاية، يجب أن تعرف! دخلت إلى غرفتها على مهل، وناديتها بصوت خفيض، فوجدتها مستيقظة تتساءل من كان على الهاتف، فأخبرتها بالأمر، فما كان منها إلا أن ضمتني برفق وأعادتني إلى سريري، منذ ذلك الوقت وحتى وقت جلوسي في العزاء، أصبح كل شيء ضبابيًا غير مفهوم بالنسبة لي، تفاصيل كثيرة في يوم ممتلئ بالنواح والأصوات والأماكن والأشخاص، لم أعِ منه سوى دخول أمي إلى سُرادِق العزاء بطرحة لونها أبيض، كانت جميلة للغاية، يبدو على وجهها السكون، لم أرها تبكي طوال اليوم، دائمًا هادئة، تستشعر الأمان في نظراتها الوديعة، وظلت هكذا حتى عُدنا للمنزل، وضعتنا في أسرتنا بحنان بعد يوم شاق وأطفأت الأنوار، ولم أدرِ بنفسى إلا وأنا أستيقظ لأشرب الماء، فسمعتها تبكي بصوت خفيض، حينها فقط أدركت أن والدي قد توُفي بالفعل، وأن الأمر واقع لا محالة.
(2)
كانت أمي -ولا تزال- في نظري أقوى نساء الأرض، وأكثرهن صلابة ومقدرة على التحمُّل، لكني لم أفهم وقتها كيف استطاعت أن تتحلى بهذا القدر من السكون، كيف استطاعت أن تقوم بكل شيء كما لو كان أبي موجودًا، لم ألحظ في وجهها أي شيء يومها، حتى أنني حين أسترجع هذه الأحداث الضبابية الآن أجد أني أذكرها واقفةً بجوار قبره وهو يُدفَن، لتُلقِّنه الإجابات عند السؤال في ظل صمت الجميع.
وجدت إجابات لسؤالي ذاك بعد مرور سبع سنوات كاملة على وفاة والدي، وبرغم إيماني الآن أن سبع سنوات وقت غير طويل بالنسبة للأحداث التي قد تُلِم بحياة الإنسان، لكنها كانت كافية لأن تُغيرني بالكامل، للقدر الذي أصبحت عليه الآن، والذي جعلني أجد الإجابة على سؤالي.
بعد سلسلة طويلة من الأحزان التي لم يكن لسبع سنوات كاملة أن تتحملها، أصبحت أعرف أن للحزن ألوانًا أخرى غير الأسود، فهو يمر بدرجات أخرى فاتحة، حتى أنه قد يصل بنا لأكثر الألوان نقاءً وهدوءًا، أبيض كلون طرحة أمي الجميلة.
أصبحت أعرف الآن أننا ننضج مع كل حادث حزين يقع في حياتنا، فهو يُكسِبنا القوة والقدرة على المواجهة، أصبحت أُوقِن أن الحياة تُعلِّمنا جميعًا كيف نحيا ونحن نفيض بالأوجاع، لأن مصيرها للزوال، مهما تركت آثارًا على قلوب وشروخًا بالروح، لن تمنعنا من أن نضحك أبدًا، فالغد آت مهما طال بنا اليوم، وللشمس ميعاد ستشرق فيه مهما خبأتها الغيوم في طياتها.
(3)
بالرغم من إيماني بحاجة الإنسان لأن يرى الجانب المُشرِق في أيامه دائمًا، لكني أيضًا أؤمن بحاجته للحزن، لا، لا تظنوا أنني أشجع على “النكد”، على الإطلاق، وإنما أُشجِع على عدم رفض الحزن أو الهروب منه، حتى ولو وجبت علينا ظروفنا أن نؤجله، يجب أن نسمح لأنفسنا بالحزن، يجب أن نترك لقلوبنا المساحة لتعبر عما بها، لتُخرج أوجاعنا من مكامنها، فحينها فحسب سنحتضن أحزاننا بدَعَة، سنتقبلها ونقبلها، سنعرف أنها جزء أساسي منا، لا يتجزأ ولا ينفصل عنا، لأن هذه الأحزان تُشكِّل هوياتنا، تصنع منا الشخصيات التي نحن عليها الآن، الشخصيات التي يجب أن نفخر بقدرتها على أنها ما زالت قادرة على أن تحزن بكل ما يتطلبه منها الموقف، وبكل ما يستدعيه من عواطف جيَّاشة، فقد وصل الحزن بالبعض لأن يصبحوا متبلِّدي المشاعر جدًا، ليس رغبةً منهم في حدوث هذا، وإنما تجنُّبًا للألم الذي اعتصر قلوبهم جرّاء هذا الحزن، بل وبقدرتها على أن تتخطاه حتى ولو تشبَّعت بتفاصيله، ولو توغلت أحداثه في أيامها، ستنهض يومًا ما لتشعر أن الوقت قد شفى الجرح، وأنه قد حان الوقت لأن نتخطى الأمر.
ومع هذا.. فأنا أُصِر إصرارًا تامًا على عدم استعجال هذا الوقت، فلا تسأموا الحزن إن طال، بل اعطوه حقه ووفوه قدره، ليصبح ضيفًا خفيفًا، فلا يعود لنفس السبب مرة أخرى، ولا تخجلوا منه، احكوا عنه دون خجل أو خوف من النقد اللاذع وأحكام بعض الناس المقيتة التي تستخف بأحزان الناس وتراها غير جسيمة بالنسبة إلى معاييرهم غير الصحيحة عن فداحة الأحزان وتُلقِّب كل من لا يروق لهم حزنه بـ”ملك الدراما”، تحرروا من معايير الناس عن الحزن، فكل حزن قادر على اعتصار قلب صاحبه هو جسيم، حتى إن لم يعنِ للآخرين شيئًا.
أظن أن الكاتب ستيفن تشوبسكي قد لخص الأمر بأكمله في روايته The Perks of being a wallflower حين قال: “أظن أننا ما نحن عليه لعدة أسباب، وربما لن نعرف أغلب هذه الأسباب لكثرتها، لكن برغم من عدم قدرتنا على اختيار الطريق الذي تأتي منه هذه الأسباب وتجعلنا نسير فيه، يمكننا أن نختار إلى أين نذهب من بعدها، يمكننا أن نظل على قيد الحياة، وأن نفعل الكثير من الأشياء، وأن نشعر بالرضا عنها”. نعم، لا يمكننا أن نعرف ما السبب الذي يجلب الحزن على قلوبنا، لكن يمكننا أن نختار أن نمضي قُدُمًا، وأن نشعر بالرضا عن الحياة.