طفلي المُحتَمَل.. صدقني الأمر ليس شخصيًا

758

ياسمي

 

مشهد 1 (نهار خارجي)

الزمان: مايو 2012.

المكان: أحد معامل التحاليل الشهيرة.

التجربة: إجراء اختبار حمل.

 

النتيجة تظهر خلال دقائق، تُخبرني فيها الطبيبة أنني حامل، تختنق عيناي بدموع الفرح، أسألها بارتباك: متأكدة؟ تُجيبني بنعم، فأخرج من المكان قدماي لا تحملاني، أُريد أن أستند لأي مقعد لكي أتمالك نفسي، وعلى طول المسافة بين منزلي والمعمل أُقرر أن أعود سيرًا على الأقدام عساني أستوعب ما حدث.

بعدها أهاتف زوجى وأنا أبكي (من فرط السعادة والشعور بالرضا) أُخبره أنني حامل، ثم أُغلق السماعة لأنفرد بنفسي، في حضرة الله الذي أشكره بامتنان لأنه استجاب لدعائي.

 

مشهد 2 (نهار خارجي)

الزمان: ديسمبر2016.

المكان: نفس معمل التحاليل الشهير.

التجربة: إجراء اختبار حمل.

 

النتيجة تظهر خلال دقائق، تُخبرني فيها الطبيبة أنني حامل، تختنق عيناي بدموع الصدمة، أسألها بارتباك: متأكدة؟ تُجيبني بنعم، فأخرج من المكان قدماي لا تحملاني أُريد أن أستند لأي مقعد لكي أتمالك نفسي، وعلى طول المسافة بين منزلي والمعمل أُقرر أن أعود سيرًا على الأقدام عساني أستوعب ما حدث.

أعود للمنزل فأجد زوجي، يسألني متى ستظهر النتيجة، فأجيبه أنها ظهرت وأنني حامل، ثم أتركه وأذهب لحجرتي لأنفرد بنفسي، أنهار تمامًا. وحدهم من يعرفونني جيدًا يعلمون هَول الخَبَر، خصوصًا مع إعلاني الدائم أنني لا أريد أن أكون أمًا مرة ثانية، ولن أُكرر التجربة ولو على جثتي.

 

يُحاول زوجى أن يُهَوِّن عليّ الفجيعة، فيُحدِّثني عن إيجابيات التجربة، وعن “الرزق اللي جاي”، وكيف علينا أن نكون مؤمنين فلعل في ذلك الخير، وحين لا أتجاوب معه في رؤيته الحالمة، يُحاول إضحاكي كما يفعل دومًا، فلا ينجح. أنتظر مغادرته للعمل لأمارس طقوس الانهيار كما يقول الكتاب.

 

أبدأ في البكاء والنحيب بصوتٍ عالٍ جدًا.. جدًا جدًا، تتكسر يداي من الخبط على الجدران، أنظر للسماء وأنا أنطق بأشياء مثل “ليه كده يا رب؟ واللهم لا اعتراض! وحسبي الله ونعم الوكيل”، أبكي أبكي أبكي، حتى أُصاب بالإرهاق، فأتوضأ وأصلي عسى الله يمنحني بعض الصبر على قضائه.

 

في خلفية رأسي تدور الكثير من الأفكار حول كل الأشياء التي كنت أريد أن أفعلها والآن ستصبح مستحيلة، خططي التي عليّ أن أُغيِّرها أو أؤجلها لأجل غير مُسمى. تصدمني فكرة أنني سأكتسب الوزن من جديد بعد أن قضيت آخر سنتين في ريجيم مستمر حتى أصل لوزني المثالي. أتذكر التسنين وقلة النوم والتطعيمات والبوتي تريننج، ثم أتخيل نفسي وأنا أم لطفلين “بيسلموني لبعض”، وكيف سأصبح من الأمهات اللاتي تعجز عن رؤية صديقاتها لأن الخروج بطفلين أكثر صعوبة من الخروج بطفل واحد.

 

هذا بالإضافة لأفكار حول الحمل في هذا الزمن، حيث تعويم الجنيه، واللبن الصناعي اللي بـ200 جنيه والبامبرز اللي بنفس السعر، التطعيمات والدكاترة ومصاريف المدارس الفلكية، أفكار كثيرة سوداء تجتاح رأسي، فأسقط في الحزن أكثر وأكثر، ثم فجأة تأتيني بارقة أمل تتمثل في: ماذا لو من كثرة الحزن أُصبت بالإجهاض وانتهى الأمر؟

 

كل تلك الأفكار تتسابق في رأسي، ومع كل فكرة يُظلم قلبي أكثر وتنطفئ قطعة من روحي، فأُقرر مغادرة المنزل بطفلتي على ألا أعود إلا آخر الليل، أقضي اليوم مع “ونس”، التي تُفجعني حقيقة أن طفلاً آخر سيُشاركها في، وأنني لم أعد أمها وحدها، فتُحزنني فكرة أن مشاعري الثمينة تجاهها سأمنحها لمخلوق آخر ليس لديَّ أي ولاء تجاهه، بينما هي طفلتي التي تمنيتها من الله واكتفيت بها.

 

قبل النوم أفتح الإنترنت وأدخل على أحد مواقع الحمل الشهيرة، أُسجل تاريخ آخر دورة شهرية لي، فيُخبرني الموقع أنني في الأسبوع الخامس، أبحث عما يحدث في هذا الأسبوع، فأكتشف أن الآن طفلي قد صار له قلب ينبض، فيتدفق في قلبي بعض الحُب تجاهه.

 

أُخبر بعض الصديقات المُقربات جدًا، فتقول لي إحداهن إنني حملت في ظروف صحية لا يجوز معها الحمل، ما يجعل فرصتي في الإجهاض أكثر 3 مرات عن العادي، فأشعر بغصة ما. أنا لا أريد أن أكون أمًا مرة ثانية، لكنني لا أريد أن أؤذي هذا الوافد الجديد، هل بدأت مشاعر الأمومة تربطني به؟ هو الذي أخاله أكبر كارثة حدثت لي بحياتي!

 

أنام فأستيقظ أكثر تقبُّلاً للفكرة، إلا أن المزيد من ذكريات الحمل والأمومة تأتي لذهني، فأعود للانهيار، شيء غامض يُخبرني أنني قوية وأنني سأكون بخير، لكني لا أريد أن أصدق ذلك، حتى لا يتملكني العشم فأتحطم فعلاً إذا لم يحدث هذا. 

خصوصًا وأنني ظللت طوال 2016 أتحدث عن محاسنها وعن كَم الإنجازات المهمة جدًا والواضحة التي حققتها فيها، لم أكن أعلم أن ختامها سيحمل لي كل هذا القَدر من المفاجآت والعثرات! فهل يمكن أن يأتي اليوم الذي أقول فيه إن حملي الثاني هو أفضل ما حدث لي على الإطلاق؟

 

مشهد 3 (نهار داخلي)

التجربة: إجهاض مُبكر.

أستيقظ من نومي على آلام مبرحة ببطني وأسفل ظهري، أهرع إلى الحمام فأجدني أنزف، تتناقض مشاعري، لا أعرف إذا ما كان عليَّ أن أفرح أم أحزن أم أخاف مما أنا مُقبلة عليه! أهاتف طبيبة النساء فتُخبرني بما عليّ أن أفعله من أجل المحافظة على الجنين، فأفعل ما طلبته مني دون تفكير أو تردد، وأنتظر ما سيحدث.

 

تزداد وطأة الانقباضات حَد البكاء والعويل، أتألم بشدة، إلى أن تأتي اللحظة التي يقذف فيها رحمي قطعة من اللحم، فأنتفض وأبكي وأشعر بهَول الفقد، دون أن أعرف هل انتهى الأمر عند هذا الحَد أم أن الله فقط يختبر أمومتي، حتى أعرف أنني أهل للتجربة!

 

تمر الأيام مع استمرار النزيف وانتظار نتائج التحاليل، لكنني في الوقت نفسه أشعر أنني أفضل نفسيًا، فإن فقدت الجنين فأنا لم أكن مؤهلة للتجربة، ولأن الله لطفه خفِيّ رحمني من المرور بها، وإن لم أفقده وبقيَ رغم كل شيء سأتقبل أقداري بشجاعة وأعرف أن هذا هو نصيبي، فأجلس تسعة أشهر في انتظار هذا الطفل الذي تمسك بي أكثر مما تمسكت أنا به.

 

عزيزي طفلي المُحتمل..

أنا لا أكرهك على الإطلاق، بل على العكس، أنا أُحبك جدًا، للدرجة التي تجعلني أُشفق عليك من امرأة مثلي، تُرهبها مُجرد فكرة أن تصبح أمًا لاثنين فتنهار مقاومتها وتصير كائنًا دون جدوى. صدقني الأمر ليس شخصيًا، فمشاعري بالرفض موجهة بالكامل نحو تكرار تجربة الأمومة في ذاتها، وليست إلى شخصك، فأنت يا حبيبي خير ورزق، وحدي أنا الضعيفة المُرتعبة، عسى أن يُطمئنني الله.

 

ثق بأننا إذا التقينا ستجدني قد تغلبت على مخاوفي، وأنتظرك بحُب وشغف، وإن لم نلتقِ فستظل ذكرى احتمال لباب جديد كان سيفتحه لي الله، لكن إرادته لم تشأ إكماله، رُبما رحمةً بي وبك.

المقالة السابقةعيش.. سكر.. وجع
المقالة القادمةللحزن ألوان كثيرة
امرأة ثلاثينية متقلبة المزاج، أعشق الرقص على السطور كتابةً، أُحب الفن بمختلف أنواعه وأعيش عليه. والآن كبرت وصار عليّ أن ألعب في الحياة عشرات الأدوار طوال الوقت، لأستيقظ كل صباح أُعافر حتى أستطيع أن أُحاكي بهلوانات السيرك فأرمي الكُرات المُلونة بالهواء ثم ألتقطها كلها في آنٍ واحد.

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا