بقلم/ سارة خيري
عم مشمش كان يبدأ الصباح قبل الصباح، أعلم أن الشمس سوف تسطع قريبًا إذا ما سمعت صوت جرّار باب المحل الحديدي يُفتح، يُخرِج طاولته المعدنية ذات السطح الخشبي، يستقر أمامه كوب الشاي الساخن دائمًا وفي فمه سيجارة وسيجارةٌ أخرى خلف أذنه اليسرى، أما أذنه اليمنى فكانت محجوزة لقلم رصاص مدبب السن. يقف وقفته هذه فتظهر من ورائه المنحوتات الخشبية التي يصنعها من وقت لآخر، أشعر حينها أنه كاهن ومنحوتاته معبد خشبي تضفي عليه بهاءً مقدسًا لولا زِيه البسيط الذي كان يعيدني للواقع وأدرك أنه عم “مشمش” النجّار.
أفكر بشدة في أن أكون مثله، أن أكون كاهنة في معبد وأسمّي نفسي “مشمشة”، أمسك بالمنشار ذاته (كنت أظن أن كل أدواته اسمها منشار) وأجول بها في قطع الخشب الصامتة، فأعيد إليها جزءًا من الحياة التي اقتُطعت منها عندما كانت شجرة. أشعر أنه ساحر ليس إلا، فكيف ليدين تشبهان يدَي أن تخلقا كل هذه التفاصيل التي تتنفس بها الأخشاب فيما بعد. حتى أن المنحوتات تبدو سعيدة بنقوشه الصغيرة والكبيرة على حد سواء.
أحسم قراري في المسألة عندما أرى طفلاً قارب سني يساعده، يعمل معه ويناوله المنشار الكبير والصغير والمتوسط ويشاهده بنهم في كل خطواته، أذهب إليه ذات صباح وأنا في طريقي للمدرسة الكئيبة وأشُب برأسي من فوق الطاولة التي تعلو على قامتي بشبر لأناديه: “عم مشمش.. تيتة بتقولك خليني أشتغل معاك”.
كتم الصبي ضحكته الساخرة، بينما ضحك “مشمش” ضحكته الممزوجة بسعال السجائر ورد: “الشغل هنا للولاد بس، إنتي بنوتة مينفعش تشتغلي في النجارة”. أجادله: “ليه يا عم مشمش؟”، يرد في نفاد صبر: “ما أنا بقولك عشان إنتي بنوتة، ويلا بقى قبل ما أقول لجدتك عليكي”.
بُهت من رده وغبت، دموعي الحبيسة كانت رفيقتي في الطريق للمدرسة، ينتابني غيظ شديد من “علي” الصبي الذي يعمل معه، كيف له أن يحظى بفرصة وأنا لا أحظى بها؟ كيف يمكن لـ”علي” أو لـ”مشمش” نفسه أن ينحت ورودًا وفروعًا أفضل مني وأنا “بنوتة” على حد قوله؟ ماذا تعني هذه الكلمة، أنا بنوتة إذًا أنا بالتأكيد أفضل من “عليّ” وأفضل من “مشمش” شخصيًا إذا لزم الأمر.
غيرت رأيي بعدها ولم أعد أحب “مشمش”، بعد أن عشت أيامًا أردد على مسمع كل من سألني: “عايزة تبقي إيه لما تكبري؟” بأن: “عايزة أبقى نجارة واسمي مشمشة”، قررت أن أصبح رجلاً عندما أكبر، حينها فقط سوف أصبح النجّار الذي أردت ان أكونه.
الآن أدرك أني كبرت ولم ولن أصبح رجلاً، ولكي أصدقكم القول أنا حقًا أحب حقيقة أني فتاة، ولكن لو كنت رجلاً لتعلمت النجارة دون أدنى شك، أظن أني كنت سأغير مسار الفن الخشبي، كنت سأغير هذا الخشب الباهت وأنحت عليه اسمي ورسومًا أحبها، أكتب اسم مدرسي الشرير واسم “مشمش” وأشطبه بدلاً من سنوات قضيتها في نحت الديسك الدراسي، وكنت بالتأكيد سوف أطلب من “الأستورجي” أن يلون منحوتاتي بألوان فيها حياة، خصوصًا الأبواب والشبابيك، ستكون على الأغلب مثل السماء والبحر وكل ما يذكرني بالبراح. كنت سأصنع علبًا خشبية دائرية ومستطيلة ليضع فيها الأحبة هداياهم بدلاً من العلب الكارتونية الرديئة، وبعض المكتبات أيضًا، لتحتضن الكتب الجيدة، ولكن أهم ما كنت سأصنعه هو صناديق ملونة للبوستة توضع داخل أفنية البنايات، لتحوي رسائل وخطابات عابرة للبلاد، رسائل حية وحقيقية، معطرة ومبللة بالدمع احيانًا.
كنت سأصنع منحوتات أجمل من منحوتات “مشمش” وكنت سأعطي الفرصة ذاتها لكل من يمتلك الشغف ذاته.. ولد أو بنوتة.