فى رحلة معرفة الله: القلب موصول بالخالق في كل وقت

780

الطريق إلى معرفة الله رحلة ممتدة على مدى سنوات العمر. وعلى مدى سنوات عمري التي جاوزت الثلاثين، ومع ما اختبرته من مواقف حياتية تراوحت بين الأفراح والأتراح، أخبرتني رحلتي أنه وإن كان شطر كبير في رحلة معرفة الله يكمن في العبادات التي ترقق القلوب ونعلن بها خضوعنا إلى الله، إلا أن شطرًا كبيرًا أيضًا يكمن في القلب الذي يستحضر الله في كل شيء، لا في أوقات التعبد فحسب. وفي الرحلة ثمة مشاهد إيمانية لن تصادفها في دور العبادة. وإنما في مواقف حياتية يومية، يدل بها صانع الكون وخالقه على نفسه. وتدلل بها بعض القلوب على أنها موصولة بالله وتعيش في معيته على الدوام.

دعاء البسطاء

طالما أسرت قلبي دعوات البسطاء. تلك الصياغات السلسة التي تحوي مع بساطتها جمالاً عذبًا على طريقة السهل الممتنع. لا تأسرني بساطة التراكيب اللغوية فحسب، وإنما يخطف قلبي دومًا ذلك اليقين الراسخ في قلوب عرفت طريقها إلى الله جيدًا.

“مِد إيديك لينا يارب وحِلها من عندك”. “أنام وأصبح في خيرك لا تنسّيني ذِكرك، ولا تحوجني لغيرك”. “الفرج من عندك وحدك يا كريم”، وغيرها من صياغات عذبة تخبرك أنه لا مجال للقلق ونحن في رحاب الله. فلا تهم كارثية ما نواجه أو مدى تعقيد الموقف، فالله هنا موجود ومُطّلع وسينجينا كما يفعل كل مرة”. لقنتني دعوات الطيبين درسًا عن أن اللجوء إلى الله لا يحتاج منك سوى لسان يستحضر الله دومًا ويسأله التوفيق والتيسير في كل خطوة.

اقرأ أيضًا: الله يسُكننا

سأخبر الله بكل شيء

لم أعلم كم عامًا قد انقضى على مشهد ذلك الطفل السوري وهو يبكي بعد قصف منزله مرددًا: “سأخبر الله بكل شيء”. لم يفارقني ذلك المشهد من حينها. لا لتأثري بقسوة تأثير الحروب على حياة الأطفال تحديدًا فحسب، وإنما للاندهاش من ذلك اليقين الراسخ في ذلك القلب الصغير بأنه سيلجأ لله ليقتص له، سيخبره بتفاصيل كل ما دار وما تعرض له، وسيترك لله التدخل للاقتصاص له. هكذا ببساطة.

تصورت أحيانًا أن ما ردده الطفل ما هو إلا قلة حيلة. تمامًا كأي طفل صغير يزعجه الآخرون فيخبرهم بعد أن يعجز عن استرداد حقه أنه سيلجأ لوالده للاقتصاص من المزعجين. ولله المثل الأعلى، لكن نبرة الثقة في صوته المخنوق بالبكاء، تخبرك أن هذه ليست قلة حيلة، هذا يقين بعدل وقوة الله. هذا استناد على مَن لا يخيب الظن فيه. هذا تذكير بأنه وإن انقطعت كل الأسباب الدنيوية للمدد وأنت في حالة ضعف، فإن مدد االله لن ينقطع عنك أبدًا، حتى وإن لم يأتِك فورًا، لكنه حتمًا سيأتي، وحتمًا لن ينسانا الله.

وصفة جدتي السحرية لمحاربة الهموم

يُقال إن لكل الجدات وصفة سحرية يقدمنها في حالة مواجهة المتاعب. أشار عمر طاهر في روايته ” كحل وحبهان” لتلك الوصفة حينما تحدث بطل الرواية عن علاقته بجدته قائلاً: “أحب الطريقة التي تداوي بها أحزان أي شخص.. كل لقمة وادخل نام شوية”. ربما تتماثل كل الجدات على اختلافهن في مداواة الأحزان بالأكل والنوم. لكن كانت لجدتي وصفة إضافية طالما قدمتها لي في أي موقف صعب: “قولي يا رب”. فإن استصعبت المذاكرة، أو استثقلت مشوارًا ما، أو شكوت من تراكم المهام، تهديني فورًا الحل السحري، أن أبدأ فحسب فيما أستصعبه وأنا مستعينة بالله. وإن نظرت لها مستفهمة لأنني كنت أنتظر حلاً عمليًا لما أشكو منه، تجيب بثقة على نظرتني المستفهمة بقولها: ” قولي يا رب، لن يخذلك أبدًا”.

مناجاة الله للتحرر من الضغوط

كنت مستقلة يومها سيارة أجرة في طريقي للعمل. لم أكن أعر انتباهي الكامل لحديث السائق المطول، حيث كان برأسي ما يشغله. لم أعلم كم حكاية فاتتني من حكاياته الكثيرة، لكن وحدها تلك الحكاية عن صلاته ليلاً استوقفتني. أخبرني أنه لا يستطيع أبدًا النوم دون أن يصلي. بادرني بالسؤال: “تعرفي ليه؟”. لم يتنظر لأجيب، وانطلق في الإجابة موضخًا أن الصلاة ليلاً تكون فرصته للتحدث مع الله ومناجاته. أسند يده اليسرى على نافذة التاكسي بحيث تسند رأسه وبدا كأنه يحدث نفسه لا يحدثني، ثم قال: “برتاح لما بتكلم مع ربنا”.

مرت سنوات على هذه المحادثة، لكنني سمعت المعنى ذاته من سيدة جميلة تدعي “أم ناصر”، في حديثها مع الإعلامي محمود سعد في إحدى حلقات برنامج “باب الخلق”. سألها سعد “بم تدعين الله في صلاتك؟”، أجابته بسجية نقية بأنها في الصباح تطلب من الله أن يتسلم منها اليوم ليعينها عليه. أما في المساء فتشكر الخالق على مضي اليوم بسلام.

معنى جديد في رحلة معرفة الله

من دعوات الطيبين السائلين المولى أن يتدخل بعنايته وتيسيره للصعاب، لوصفة جدتي السحرية لطلب عون الله في كل خطوة تبدو ثقيلة على النفس، ومن مشاهد لقلوب اتصلت بالله لتناجيه في كل وقت، تشكَّل في قلبي معنى جديد في رحلتي لمعرفة الله: أن الشعور بمعية الله هو أن تكون القلوب موصولة بخالقها في كل وقت. وأن يستحضر القلب مولاه ليستعين به في كل شيء مهما عظم أو صغر. وأنه بلا ذلك الوصل المستمر بين القلوب وخالقها ستبدو الحياة موحشة جدًا، وتصبح القلوب جافة جدًا.

اقرأ أيضًا: الامتنان لله: شعور جديد يصف علاقتي بالحياة

المقالة السابقةعلمني الامتنان
المقالة القادمةالخوف من الأمل: لا تجعل حياتك سلسلة من الإحباطات

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا