(1)
كانت تتطلع إليّ وهي تجلس بجانب خطيبها في “الكوشة”، ترسل في طلبي كلما ذهبت لأجلس على الطاولة المخصصة لصديقات العروس، فأذهب لأقف بجانبها، تُمسِك يدي بيدها شديدة البرودة، تبدو نظرات القلق على وجهها، تحاول أن توزع الابتسامات على المُهنئين حولها، لكنها في النهاية تلتف لتبحث عني بينهم، فإذا ما تلمست نظرات الأمان بين عيني سكن قلبها وهدأت، حاولتُ بقدر استطاعتي أن أكون حولها، كنت أعرف ما سيحدث، ستبكي، ستبكي لأن الذكريات ستلاحقها، فبرغم الأغاني والمدعوين والزغاريد، ستظل ذكرى أمها -رحمها الله- تحلق حولها في الأجواء، وبالفعل حدث ما كنت أتوقعه، فقد ظلت تحبس دموعها لفترة ليست بالقصيرة، إلى أن انهارت بمجرد أن احتضنتُها بين ذراعيّ، فشعرتُ كأنها ابنتي الصغيرة، أنا التي لم تكن قط على علاقة جيدة بفكرة الأمومة بشكل عام، أحسست بها أمام عينيها البريئتين الساعيتين للدفء.
تُشعرني “هدير” صديقتي دائمًا أنها جزء مني، قطعة من قلبي، كلما مر الوقت بيننا، أتأكد أن الأمر لا يقتصر على كونه مجرد صداقة، فهي دائمًا مُعلقة بي كطفل متعلق بأمه، تأتي لتستشيرني في أغلب أمور حياتها، وأجدني -دون سعي مباشر لهذا- أشعر بأنني مسؤولة عنها بشكل ما، وبضرورة اضطلاعي بأمورها، تُسعدني ضحكتها حين تملأ الكون، ويملؤني حزنها حتى أعماقي وإن لم تصرح لي به، أيقظت بداخلي مقومات الأمومة التي لطالما ظننت أنني بعيدة عنها كل البُعد، وأنني لن أنجح ولو قيد أنملة في التعامل مع أطفال أجلبهم للحياة، أعطتني الحب مثلما أعطيتها الأمان، وجعلتني أتيقن أن توأمة الروح لا تتعلق دائمًا بإيجاد الحبيب المثالي، وإنما تحتمل بشكل كبير إيجاد إنسان بنقائها.
(2)
جاؤوا لزيارتنا بعد أعوام طويلة من القطيعة العائلية التي صنعها كبار العائلة، وكأنما أَحب جيل أمي أن يُعيد أواصر الحب ويعيد روابط صلة الرحم من جديد، بعد أن بدده الكبار بسوء فهمهم للأمور.
عادةً ما أتوجس من قدوم الضيوف إلى منزلنا الذي لا يزورنا فيه الكثيرون، فقد اعتدت على هدوء بيتنا الدائم، خصوصًا إنني أعاني من فوبيا مقابلة الغرباء للمرة الأولى، فيظل قلبي يحمل الكثير من القلق، وعقلي يمتلئ بهواجس، لكن كان بانتظاري مفاجأة لم تكن في الحسبان، بددت كل مخاوفي وتحفظاتي أمام من لا أعرفهم، وكسرت جليد الزيارة.. “رحمة”.
“رحمة” في عمر براعم الزهور، لا تزال في “كي جي تو”، تحب أن تُجلِس عرائسها جميعًا في صف طويل لتُلقي عليهم محاضرة مهمة عن معنى كلمة غرفة المعيشة بالإنجليزية “ليفينج رووم”، لأنه لا بد لهم أن يتعلموا طبعًا. تُحب أن تلون باللونين الأحمر و”البينك” كل الأشياء التي ترسمها، حتى الشمس والأشجار، رغم أنها تعرف أن هذه ليست ألوانها الحقيقية، لكن لا بأس ببعض التغيير، كما تقول، لدى “رحمة” نظارتان طبيتان، إحداهما للمنزل والأخرى للخروج، وتحب “رحمة” أيضًا أن تأكل الكيك والحلوى، لكن أشد ما يسعدها في الكون هو أن تركب الأرجوحة، وحين عرضت عليها أن أُجلِسها على قدمي لتتأرجح رحبت فورًا بالفكرة، وظلت تتأرجح على قدمي، إلى أن أخبرتها أنني لم أعد أقدر، فعرضت عليّ صفقة هائلة، أعطتني عناقًا كبيرًا دافئًا مقابل أن أستمر في أرجحتها، وحين أطلتُ في العناق قليلاً تململت قائلةً “كده مراجيح أكتر”.
لم تكن “رحمة” ترغب في العودة للمنزل مع والدتها مُطلقًا، حتى أنا لم أرغب بهذا، وحين اتفقت مع ابنة خالتها الصغيرة على أن نذهب يومًا إلى الحديقة ذات “المراجيح” الكبيرة لنلعب معًا، تقدمت “رحمة” بكل ثقة إليّ رافعةً يدها في ثبات، وكأنها تريد أن تصافحني قائلةً “أيوة أنا اتفقت”، ودعتني وهي تخرج قائلةً “متزعليش هجيلك بكرة”، ثم طبعت قبلة بجمالها على خدي، راكضةً خارج منزلنا.
لا أتذكر أنني ضحكت ولعبت مثل هذا اليوم منذ مدة طويلة جدًا، وبالرغم من الفوضى التي أحدثناها في الشقة والتي كادت أمي تقتلني بسببها، لكني لأول مرة أعاون في ترتيب الأشياء وتنظيف الفوضى بكل سعادة، فـ”رحمة” هي من خلقتها، وأي شيء تخلقه “رحمة” هو كتلة غير طبيعية من البهجة المحببة للقلوب، إنها بصحيح الفوضى الخلّاقة.
كنت أحكى لأمى صباح اليوم التالي عن هذه الطفلة المشكلة، لتقول سبحان الله الذي وضع لها القبول في الأرض دونًا عن باقي أطفال العائلة! وحين تساءلت، فهمت من أمي أنها مُتبنَّاه، أخذتها والدتها غير البيولوجية وهي مجرد رضيعة، وسمتها “رحمة”، لأنها بالفعل رحمة من الله على قلب امرأة سعت بكل نفيس لأن تحقق حلم الأمومة، لكن الله لم يرد لها أن تنجب، ومع هذا فقد بعث لها رحمة من عنده في صورة هذه الطفلة، التي تشبه كثيرًا قطعة الفراولة التي تضعها في شعرها، بعد سنين من الرجاء، لتكون فاكهة العائلة بحق، أكثر حتى من الأولاد البيولوجيين.
لم أتمالك دموعي وابتساماتي بعد سماعي للقصة، ولا أعرف لمَ انشرح قلبي لـ”رحمة” أكثر من ذي قبل!
(3)
لم تكن تقابلني الكثير من قصص التبنِّي والأمومة، ولم أكن قد شعرت من قبل بإحساس “ابن قلبي”، فلم يكن في حياتي شخص أتطلع إليه كقدوة من غير دمي، ولم يكن أحد يعتبرني هكذا أيضًا، لكن توالي حدوث القصتين السابقتين في حياتي جعلني أوقن أن ثمة جوانب خفية في الأمر لن يحسها إلا من يعيشها قلبًا وقالبًا، أشياء ستغير من رؤية كل من لا يرى حقيقة روابط الحب، فالحب لا يتعلق كثيرًا بالدماء، الدماء تصبح فعلاً في كثير من الأحيان مياه تجري بالعروق، لا يقيم لها أصحابها وزنًا، كل ما يتبقى في النهاية هو العطاء، العطاء فحسب، ولا تحسبوا أن القدرة على منح العطاء شيء سهل، وإنما يحتاج إلى مجهود قوي، وإلى قلب نقي يُشعِرك أنك جزء منه بالفعل، وأنك تمنحه مثلما يمنحك بالضبط.
بعد “رحمة” و”هدير”، وودت لو أن كل من يقول إن الدم هو الحكم، يرى أن القلوب دائمًا هي الحكم الأول.