عيني التي تراقبني

550

مهووسة أنا بمراقبة نفسي. نقطة

أنا أسوأ أعدائي؛ دائمًا بداخلي ذلك الصوت الناقد، يسخر مني ويقلل من شأن كل ما أفعله. كلما كتبت حرفًا وأرسلته للنشر، أقول هذا ليس جيدًا كفاية، وسأكون محظوظة جدًا لو أعاروه ولو مجرد نظرة. لا تفيدني مرات النشر المتعددة السابقة، فكل مقالة هي محاولة جديدة، وحرب أجدّ مع نفسي.

 

أتهم نفسي دائمًا بالتقصير. أتهمها بنبرات ساخرة تقلل من شأنها. الواقع، أعتقد أنني أعرف جيدًا من أين حصلت على نبرات السخرية اللاذعة القاسية تلك. إنها تجري في دماء العائلة. إنهم لا يتلفظون بكلام تشجيعي بقدر ما يسخرون ويحطمون من “المراكب السايرة”. يريدون كل شيء أن يمشي على هواهم الشخصي، كل الأشياء لا بد أن تنحصر في نطاق مجرى نهر محدد بضفتين. لكنه ماء راكد، لا يجري، لا يتجدد. يريدوننا أن ننحصر في دائرة “الأصول” وما سيتكلم به الناس. يحادثوننا بحدة، أنا وأختي، يتكلمون عن الأصول وكيف لا بد أن نتبعها حرفيًا.

 

في حقيقة الأمر، مصابة أنا بهوس مراقبة نفسي من وجهة نظر الآخرين. أسوأ أوقاتي هي المواصلات العامة، أثناء ركوبها، أصرّ على فِعل كل شيء طبقًا لرأي الناس ووجهة نظرهم، لا وجهة نظري أنا. أخرج النقود وأعين الناس مركزة عليّ، أستأذن فتاة جالسة في وضع حقيبتي على ركبتيها وأحادثها: “معلش أصلي هطلع الفلوس” و”معلش أصلي لسه هدوّر على المحفظة”. مالها هي ومال كل كركبتي؟ لماذا أشرح لها وأستعطفها؟ يختلف هذا الأمر بالتأكيد عن محادثة الغرباء في المواصلات، لأننا حين نحادثهم نقول عن أشياء تشغل بالنا، ولا نكتفي بشرح و”تبرير” تصرفاتنا لتصبح مبررة في رأيهم.

 

أمشي في الشارع على الرصيف تمامًا، أتخيّل قضبانًا أسير عليها في طريق مستقيم لا يقطعه التواءات أو انعطافات. أتخيل أن هناك من يراقبني، لذلك لا بد أن تصير تصرفاتي مبررة في وجهة نظره. أُخرج السماعات بحدة من الحقيبة وأوصلها بالهاتف المحمول وذاكرته المليئة بأغانٍ لم أحدّثها منذ فترة، لأسكت الأصوات المتصارعة في دماغي. هذه حالة مزمنة. وبعدين؟ وبعدين يا روز؟

 

أشتكي لطبيبي بيأس لأنني أعرف أنه لا مخرج من هذه الحالة. يبتسم، يقول إن هذا يحدث طوال الوقت. أصرخ: “كيف عرفت؟” فيهز رأسه بحكمة. يوصيني بأن أكون رفيقة بنفسي، أن أحترم ضعفي. يقول إن معاملتي السابقة -وربما الحالية- لنفسي لا تسعد بأي جميل أصنعه، بينما تضع النقائص والهفوات تحت عدسة مكبرة جدًا، وتصرخ بأخطائي طيلة الوقت. أقول له إنني لم أشعر يومًا بأنني “جيدة كفاية” فدائمًا هناك مكملة تفوتني أو نجاح لم أستطع الوصول إليه. بالمناسبة، من يحيطوننا يبكّتون حتى النجاحات التي نصل إليها، طالما ليست “على الأصول” التي ركنوا إليها واعتبروها الصح الأوحد في الكون.

 

ينصحني طبيبي أيضًا أن أضع خطة علاج طويلة الأمد، أن أستغل “البدايات الجديدة” كما يسميها. يقول إننا يمكن أن نستيقظ صباحًا ونقول هذا يوم جديد فلنجعله بداية جديدة، بداية لا أسخف فيها من نفسي، سأكون رقيبة على نفسي التي تراقبني -معيار مزدوج من الرقابة- كي أصحح وضعها وأقول لها أن تكفّ عن ذلك. سأقول لها إني بالفعل جيدة كفاية، وإن الكمال لله وحده، ومهما عملت سأكون دون الكمال بكثير، لكن يكفيني شرف المحاولة. ستكون خطة طويلة الأمد، تستمر أسابيع، أخطئ فيها وأصيب، أحاول وأتعثر، لكن لا بد من الاستمرارية والمحاولة الدؤوب. لا بد أن أضع في ذهني الأساسيات، كأني “حلوة كده” حتى لو احتاج الأمر بضع تعديلات طفيفة: تسريحة شعر، نظارة جديدة، تعلّم لغة… إلخ. لن أقول إني سيئة ما دمت لم أحصل على تسريحة الشعر تلك، بالعكس، سأقول لها إني حلوة وستزيدني التصفيفة حلاوة. ما السيئ في ذلك؟ عليّ أن أتعلم مخاطبة نفسي برحمة أكثر.

 

والهدف من كل هذا، يقول طبيبي العطوف، الهدف أن أصل للسلام الداخلي، والثقة بالنفس، وتعلّم المسامحة. يريدني أن أصل للرضا، والتمتع بصحبة نفسي دون منغصات داخلية تعمل مثل طائر نقّار الخشب وتنقرني في رأسي لتؤلمني وحسب. يريدني أن أتقبلني. كما أنا. أنا جيدة كفاية.

 

أعلم أنا أن هذا صعب جدًا، لكن يمكنني المحاولة. دون تلك المحاولة سأعيش في يأس الشعور بالنقيصة الدائم. وعلى إيه يعني؟ لا شيء يستحق. ليس الهدف الحصول على رضا الناس، بل على رضا نفسي عن نفسي، وهذا عسير، لكنه ممكن التحقق، ليس مستحيلًا. لا أريد أن أعيش تعيسة مثل “ليلى” في رواية “الباب المفتوح”، حين ركنت إلى جانب أمها تستمد منها الثقة والأمان، وأمها لا يهمها إلا كلام الناس والأصول، نفس الأصول التي قتلت ابنة صديقتها التي طلبت الطلاق فقالوا لها إنه ضد كل ما يعرفونه فانتحرت. بالعكس، أريد نهاية الرواية، حينما حاربت نفسها، والمحيطين بها، والعدو الأجنبي، وانتصرت. أريد الانفتاح والتحرر، والرضا عن النفس، طالما لا أرتكب فعلًا يخالف القانون أو ما يريده منا ربُنا. 

علّي موفقة في مسعاي.. آمين.

المقالة السابقةأنا هنا وإنت هنا
المقالة القادمةولنا في الصمت حياة

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا