ولنا في الصمت حياة

1123

الصمت يستفز الأقارب، ويٌحيّر الأصدقاء، ويثير فضول الغرباء. الصمت لغة لا يمكن تعلمها ولا توارثها بين الأجيال.. الصمت حالة قد تكون في موضعها الصحيح، فينشأ عنها ما لم نكن نتوقعه وننطلق نحو الذي كان محالًا. أو نخطئ ويلحق بنا الندم ونظل نكرر اللحظة في عقولنا.. لو أنّا تكلمنا.. لو أنّا انفعلنا.

أنا من هؤلاء الذين يلتزمون الصمت في أشد المواقف التي يتمنى فيها الآخرون كلمة. ليس لأني أريد ذلك، ولكنه رد فعل غريب يصدر عفويًا، ولا أندم على الإطلاق أني لم أتحدث. بل بالعكس؛ أحيانًا صمتي يزيدني ثقة بنفسي.. أذكر أني كثيرًا كنت أعرف إجابات صحيحة لأسئلة من أساتذتي ولا أبادر بحلها.. أستمع لرد زملائي في صمت.. وأتأكد من صحة إجابتي وأبتسم.

وحين يفاجئني أحد الأساتذة.. أجيبه، ودومًا إجابتي يتبعها تعقيب واحد “ما إنتي شاطرة أهو.. خايفة ليه تجاوبي؟!”. لم أكن خائفة، لا أعاني من فقدان الثقة، أنا فقط أحب الصمت وأظن أيضًا أنه يبادلني الحب. نفهم بعضنا ونفرح لحالنا أو نرثيه. منذ صغري وأنا أعلق في غرفتي وريقة صغيرة، نقشت عليها بخطي “من صمت نجا”. كنت أعلم من داخلي أني أدين بدين الصمت. ففي الصمت حياة أود أن أعيشها، أود أن أختبرها.

ربما لهذا أعشق الصور، فهي تخلد ذكريات صامته جامدة، تنظر لتعابير الأشخاص الواقفين، تغوص في ملامحهم، يثير فضولك ما دار بخلدهم في تلك اللحظة، ويح الوسائل الأخرى المرئية بالصوت والصورة! هي تفضحنا.. بل تعرينا، نسمع كلامنا، ونرى تعابير وجوهنا ونبرة أصواتنا.. فما الجمال في شيء لا يثير فضولك!

لم أتوجس خيفة أبدًا من أن يدوم الصمت بيني وبين رفيق دربي، أعلم أنه سيشاركني صمتي بحب ودفء، وسنستبدلها بتلك النظرات الرقيقة الدافئة، أو تلك النظرات الصاخبة الغاضبة التي تحمل في طياتها اللوم والعتاب. الصمت يتيح لنا أن نسمع وقع أنفاسنا وصخب دقات قلوبنا حين نعشق، الصمت يعلمنا أن الكلام يفسد الرومانسية التى تنشأ مع حرارة أجسادنا وتورد وجنتينا وتلامس أطرافنا بعمد أو بغير عمد.

الصمت يحرك أجسادنا إلى حيث لا نستطيع أن نكون مع من نحب، فقط نصمت ونتخيل. أعشق تلك اللحظة التي يظلمني فيها أحدهم وأصمت.. ويتبين له بعد حين أنه قد ظلم، فيدفعه كبرياؤه -بعيدًا عن الاعتذار- لماذا لم تدافعي عن نفسك؟ لا أحب الكلام، ربما لو أثار أحدهم سخطي إلى حد الحنق قد أقتله في صمت.. الحمد لله أن هذا لم يحدث إلى الآن.. ولكنها دعوة للحذر من الصامتين.

الصامتون حين يتعذبون يصرخون أو يبكون، لكنهم أبدًا لا يثرثرون، وحين يفرحون يضحكون أو يبكون لكنهم لا يحكون. الصامتون لا يحبون أن يعاقبوا على صمتهم.. بصمت، بل يحبون أن يستمعوا لغيرهم ولا يملوا السمع، يحبون أن يختلطوا دون أن يشعر أحد بعزلتهم الداخلية.

أكتب هذه الكلمات حتى إذا قابلتم أحد هؤلاء الصامتين أن تحبوهم بصمتهم ولا تحملوهم فوق طاقتهم. هكذا خلقوا وهكذا خلقتم.
المقالة السابقةعيني التي تراقبني
المقالة القادمةقنوات الأطفال فيها سم قاتل

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا