برأس نصف مدرك لما يدور حوله، وقلب ممتلئ عن آخره، وقفتُ في شرفة غرفتي، أطالع آثار النجوم في السماء.
بدت لي وكأنها محتجزة بفعل قوة ما، تمنعها من الإفلات والانطلاق بحرية، أو ربما هكذا بدت لي، فكرت للحظة ما الشيء الذي يجبرها على المُضي بهذه الشاكلة دون ملل.
ظللت أسدد الظنون إلى وجوهها البعيدة قرابة الساعة، ومن خلفي كان صغيري يغط -على غير عادته- في نوم عميق، حتى أنه لم يُبدِ أي تفاعل -رغم عينه نصف المفتوحة- مع صوت فيروز من حولنا يردد بنفاد صبر “يا حبيبي شو نفع البكي، شو إلو معنى بعد الحكي”.
كان صباح هذا اليوم، كغيره من الصباحات المتكاثرة منذ ثلاث سنوات، لا شيء قادر على خلق بصمة جديدة لنفسه، بعيدًا عن أنامل الاعتياد الماكرة، التي حاربت ببسالة لمواجهتها والانتصار عليها في كل معركة، غير أن هندام الوسائد المُهان في غرفة المعيشة، وفتات الخبز الذي خلّفته معركة الفطور أسفل قدمي، وبقايا آثار أحذية الماء التي انتعلها زوجي كعادته بعد حمام صباحي ساخن، حتى تورمت عينا “الباركيه” بكاءً، أخرجوني مجمعين عن هدوئي الصباحي المعتاد، رغم أن جميعهم وآخرين لم يأت ذكرهم هذا الصباح، كاستثناء- كدرج الجوارب الذي تتدلى متعلقاته منه كرجل ضخم ثمل، غير قادر على هندمة هيئته- كانوا دومًا حاضرين، منذ دلفت وزوجي إلى هذا المنزل بعد رحلة “شهر العسل” قبل ثلاث سنوات من الآن.
سريعًا سريعًا انتعلت حذاء الهِمة ورحت أهرول يمينًا ويسارًا، حتى أعدت قبلة النظام إلى ما كانت عليه قبل أن تعبث بها أنامل الفوضى خاصتي.
أتورط كأنثى في طبيعة نمكية، تجعلني في حالة تأهب دائم لإرساء قواعد النظافة والنظام، أينما كنتُ وكيفما وُجدتُ. وآه لو أخبرتك عن تلك المرات التي حملت فيها صغيري الباكي، بيد، بينما أحارب بالأخرى بإصرار في معركة لا يعرف رأسه الصغر شيئًا عنها! يخبرني زوجي في كل مرة نناقش فيها الأمر أنها معركة وهمية، ولا سبيل لإيجاد حيز لها من الواقع، لأن الحياة بسيطة، والفوضى تلف بنا من كل جانب، فمن قال إننا مطالبون بالتمرد عليها داخل أسوارنا المحدودة، بطريقة تحيل راحتنا إلى ثقل وصفونا إلى كدر؟!
أستوعب كوننا من كوكبين مختلفين تمامًا، هو ينتمي لأرض الواقع بطريقة أعجز عن استيعابها، في ظل تحليقي الدائم في سماء الأحلام بلا أجنحة، فبينما أغرقه أنا في بحر من كلمات الثناء المزهرة وأحضان الصغيرات وصراخهن و”تنطيطهن” البهيج كتعبير عن الامتنان لهدية ثمينة ابتاعها لي، يكتفي هو بقبلة صغيرة يطبعها على يدي للتعبير عن الشيء نفسه، وبابتسامة هادئة يردد: “شكرًا يا حبيبتي”.
لكن هل يعني ذلك أنني أحبه أكثر مما يفعل، أو أنني الوحيدة التي تحارب لاستمرار الحياة تحت هذا السقف؟ يتساءل عقلي، ويعجز قلبي عن الإجابة كعجزه عن التوصل لدوافع النجوم في الاستمرار قيد الأسر.
ربما لو وجهت الأسئلة السابقة إليه، لحصلت على إجابة ترضي غروري وتشعرني بالرضا أكثر، لكن لحسن حظه وسوء صديقه عندي، أنني من يكتب التاريخ في هذه اللحظة.
في تلك الليلة التي تطفلت فيها على النجوم، كنت أفكر في الأمر مرددة: إلى أي مدى يمكن للحب والعشرة والامتنان أن ينتصروا على الهفوات مهما عظم شأنها؟ ثم هل يعتبر أمر تجاهله لإنهاكي الشديد طيلة اليوم، وعبثه بمنتجات هذا الإنهاك الثمينة.. حتى وإن كانت مجرد وسادة مهندمة وحمام نظيف، هفوة.. مجرد هفوة، أعبر عنها عبر هذي السطور بأريحية متاحة، بينما لا تكف هي عن إنهاكي رغم انتهائها.
في تلك الليلة أودعتني النجوم سرها الكبير، وأخبرتني عن حضن السماء الرحب، الذي يضمها رغم تناثرها، ورددتْ في يقين: انا محتجزة في مملكتي بفعل الحب، ورغم أن ضجر الاعتياد يصيب انتمائي أحيانًا بشيء من الشك، فإن رحابة السماء دائمًا ما تنتشلني في اللحظة المناسبة لتضمني إليها ثانية بشباك اليقين، وفجأة خطر لي كيف أن سمائي تفعل الشيء عينه، فزوجي الفاضل رغم عدم نظاميته وسيطرة الفوضى على سلوكه، يحتمل تقلباتي المزاجية بابتسامة حنونة وقلب يسع الأرض على اتساعها.. يمطرني بفيض كرمه وإنسانيته، بمناسبة وبلا.
رحت أعدد للنجوم في أحضان سمائها الرحبة، كل المرات التي كبح فيها جماح غضبه عليَّ وتبعثرت في الفراغات، ما بين النجمات كل الأوقات العصيبة التي اّثر أن يعايشها بمفرده ليحميني شر فِكرها وإنهاكها، وكل الأطعمة التي اصطحبها معه من بلاد بعيدة كي يشاركني متعة الاستماع بها، حتى وإن كانت مجرد “حبة فاكهة” نتقاسم شقيّها معًا، بينما نعدد ألوان الأطعمة التي تشاركناها يومًا ووقعنا في سطوة حبها معًا دون تخطيط مسبق، هذا رغم قسوة طباعي وحدة دوامات الغضب خاصتي، وبينما الأشياء على حالها تتكاثر وتزدان بالعشرة الطيبة بين النجمات إذا بصوته: “إنتي فين يا نونو؟ غمضي عينك يلا أنا عاملك مفاجأة”.
نظرت للنجمات ثانية، وأودعتها أنا الأخرى سري الكبير: إنه ما من يوم شعرت فيه مذ التقيته أنني قادرة على المضي بدونه، مهما فعل ومهما عانيت من أفعاله.
في الحياة الزوجية أنت لا تصطدم بشخصية الآخر فحسب، ولكنك بطريقة موازية تعيد اكتشاف آخر بداخلك، المهم في الموضوع أن تُولي هذا الذي يحتلك منذ زمن، نفس الاهتمام الذي توليه لشريكك في ثوبه الجديد، قوّمه بالنقد، عاتبه بشيء من الود وإظهار التقبل.
شخصيًا قررت مؤخرًا ألا أكون سريعة الاشتعال وقت الخلافات، وألا أتحفظ على غضب يعتمل بداخلي بلا عتاب، وأن أختار له من بين ثياب الحديث ثوبًا يليق بالمُعَاتَب، الذي قد تُحدث كلمة واحدة في روحه صدعًا عصيًّا على الرأب أبدًا، وألا أطيل الفكر في الأشياء المزعجة كي لا أفسد على نفسي قرينتها الحسنة، التي حملتني على جناحيها إلى أعلى، حتى وقت خذلتني فيه روحي وآثرت السقوط لأسفل.