عن التفاصيل الصغيرة المعذبة للروح

879

ثم أصمت فجأة.. بدون مقدمات.. بدون دوافع قهرية تجبرني على الارتحال بعيدًا رغم وجودي.. بدون أسباب أستطيع صياغتها بشكل منطقي يقنع من حولي أنني الآن أعاني.

 

في تلك اللحظات البائسة أشعر أنني روح معذبة تجول وحيدة رغم الزحام والضجيج اللذين يحاوطاها، أصدر دقات رتيبة متتالية تقرع داخل رأسي أنا فقط.

أستشعر الخيبات الصغيرة التي تأخذ أكبر من حجمها الطبيعي لأنني أردت لها ذلك.. أنس كل الأصوات من حولي لا يمنعني من العزلة، وبدلاً من كوني مصدر راحة أشخاص ما أصير عبئًا وثقلاً لا يستطيعون تحمله.. إنها التفاصيل الدقيقة في حياتي التي أختبرها وأعرف أنني حقًا أتعذب أو أنني أعذب نفسي بها.

 

في تلك اللحظات التي أشعر فيها أنني روح معذبة لا تجدي وصلة من الموسيقى نفعًا ولا تهدئني لفائف بكرات الصوف وألوانها التي تأخذ الاكتئاب بعيدًا، فقط التكور على نفسي والجلوس في ركن منزوٍ يصير الحل الأمثل حتى تأتيني صحوة لا أعرف أسبابها ولكنني بعدها أستطيع أن أرى الحياة مرة أخرى.

 

أختبر عذاب الروح حين أقرض أظافري بأسناني عندما تداهمني نوبات التوتر القوية، أجاهد في انتزاع طرف ذاك الظفر المسكين من مرقده علّني أستطيع تفريغ شحنة التوتر التي تسيطر على عقلي وجسدي.. يخترقني الألم رغم إحساس الراحة الوقتي الذي أستشعره مع اهتزاز قدمي المستمر حتى أنتهي ثم أنظر إلى شكل أصابعي الذي صار مشوّهًا كروحي، لحظتها تتجه أفكاري بعيدًا عن سبب توتري وتتمحور حول العذاب الصغير الذي يتكوّن داخلي لما سببته من أذى لنفسي في لحظات قصيرة غير مرئية.

 

أشعر أنني روح معذبة حين أهيم بدون وجهة محددة على خريطة منزلي التي أحفظها، تائهة بداخله لا أدري أين أستقر تحديدًا.. أنتقل بين الغرف كالأشباح التي صارت بلا وطن، أنظر إلى الحوائط الصامتة والأثاث الساكن.. رأسي مفرغ من الأفكار تمامًا، فقط صداع يقرر أن يحتله لفترة معقولة من الوقت وأنا على حالي أتجول ثم أجلس ثم أرقد.. أفتح كتابًا ثم أغلقه، أفتح مقبس الضوء ثم أغلقه. لا أعرف ما الذي أريده وما الذي عليّ فعله.

 

أشعر أنني روح معذبة قبيل ميعاد نزيفي الشهري، حيث تقرر بضعة هرمونات أن تزيد من نسب معدلاتها داخل جسدي فأحترق أنا بسببها من الغضب والعصبية، ينقلب مزاجي العام ويتجنبني جميع من حولي، فأنا في تلك اللحظات قادرة على خلق إعصار من المشاحنات لأسباب واهية جدًا.. يؤلمني جسدي وينتابني الإرهاق، حينها أتقن لعبة الصمت وأتركه لينفرد بي أيامًا حتى ينتهي هذا العذاب.

 

أكون روحًا معذبة حين أبكي بدون أسباب تشعرني بأهمية الدموع المسكوبة وعيناي المنتفختان وأنفي الأحمر المنغلق على نفسه أمام الأنفاس المؤلمة.. حين تحاصرني أفكار مبهمة تجعلني أخرج من فراشي ليلاً، أجلس في الظلام رغم خوفي الشديد منه ولكنه يصير مؤنسًا مع اضطرابات النوم التي تلاحقني.. حين لا يبرح شعري كعكته المهيبة فوق رأسي، خجولاً ملفوفًا على نفسه يخشى من الانسدال والتحرر، فهو في تلك الحالة يكوّن صورة مثالية للاكتئاب الذي أمرّ به.

 

أتعذب حين أريد اختبار قوة صوتي في الصراخ ولكنني أعرف أنه سيرتد لي أنا فقط.

أتعذب حين تدركني وحدتي أينما ذهبت.. ترافقني في كل التجمعات، تكبلني وتقلل من فرصي في التواصل مع الآخرين وتجبرني على مصاحبتها هي دون سواها.

حين تتملك مني هواجس الخوف من المجهول والخوف من الموت والخوف من المصائب، وتأخذ من أحلامي الليلية الراحة.

أتعذب حين أتعب دون مجهود، وأتكلم بدون وعي.

وحين لا أستطيع أن أمد يد العون لنفسي.

 

عذاب النفس لا يأتي دومًا في صور مشكلات كبيرة وقرارت مصيرية، وأحلام أكبر من الحياة.. المعاناة لا تتشكل دومًا حينما يضربني الواقع بقوة أو يفترسني الإحباط، الحزن لا يرتبط دائمًا بالفقد العظيم.

هناك تفاصيل صغيرة تبدو تافهة لكنها تؤلم، هناك أحزان تتشكل حول لحظات على الرغم من صغرها لكنها مثالية للوجع.

في هذه اللحظات الدقيقة المعذبة للروح لا أفعل شيئًا محددًا لأجد الطريق من جديد، الصمت يفلح معي دائمًا واحيانًا تدلني قدمي على الدُرج الذي أحتفظ فيه بالكريمات المرطبة للبشرة.. أنتقي واحدًا برائحة مهدئة وأبدأ في تدليك يدي به في حركة مستمرة من أسفل لأعلى وبهدوء شديد، أستشعر كل حركة وتتخللني الرائحة بصمت.

 

 

 

 

 

المقالة السابقةرسالة إلى مريم
المقالة القادمةكيف تتعاملين مع غضب زوجك؟

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا