عامٌ من الانتصاراتِ الصغيرة

406

بقلم/ هديل عبد السلام

العامُ يبدأُ بالشتاءِ وينتهي بشتاءٍ آخر، لذا فإن الشتاءَ يحملُ الأجمل والأسوأ على حدًّ سواء، كُل البداياتِ الحُلوة، والنهايات المؤسفة، أو السعيدة على موعدٍ دائمٍ مع الشتاء.
لأجل ذلكَ كان حقًا علينا جميعًا أن نُحِبّهُ ونحذرَهُ في آنٍ واحد.

العامُ الماضي كان مليئًا بالعثرات، والسقوط المتكرّر، وليالي القلق الطويلة، والأبواب الموارَبة، والحقائق المُعلّقة، والحيرة والتردّد.
حتى حَلّ العامُ الجديد، وأعلنت 2015 وصولها أخيرًا، وكُنتُ قد عاهدتُ نفسي ونَدرتُ عليها ندرًا أبقيتُه سرّي الصغير.
كانَ عهدي هو أن أُنصّبَ كُل تركيزي وأهدافي نحوَ الانتصارات الصغيرة، تلكَ التي رُبّما لا يراها أحدٌ كانتصارٍ حقيقيٍّ سواي.

1- بدَأتُ العام بانتصاري الأوّل، بعدَ أن قضيتُ سنةً كاملة من الحيرة والمُكابرة، وتغمية عيني عمدًا عن الحقيقة، استطعتُ أخيرًا في أول أشهر السنة الجديدة أن أتغلّب على كُل حواجز الخوف من الفقد ومن الوجع، ومن تكرار الحُزن تارةً أخرى، استطعتُ أن أُفلِتَ يدي من علاقةٍ أوجَعَت أكثَرَ مما أسعَدت.

2- كانَ انتصاري الثاني أن أدركتُ قوّتي المتزايدة في التغلُّبِ على مشاعر الفقد، فلم ألتفِت إلى الوراء منذُ إفلاتِ يدي ولو لمرّةٍ واحدة.

3- بعدَ مرورِ الشهر الأول، رُبّما ساورني شعورٌ بأنني لن أقوى على الحُبّ أو العطاءِ مرةً الأخرى، وأنّ تكرار الوجع رُبّما يُضعِفُ براعم القلب فيذبُل ويخفُت خَضَاره. لكنّ ذلك لم يحدُث هذه المرة. فكانَ انتصاري الثالث أنني نجوتُ من التجرِبة بقلبي كاملاً لا انتقاصَ فيه، لأختبرهُ في الحُبّ من جديد.

4- رُبّما تخبّطتُ كثيرًا كعادتي في مسألةِ تحديد وِجهتي، واحترتُ بينَ الكتابة والفن وتأرجحتُ عدّة مرّات، لكنّي اخترتُ كليهما في النهاية، وكانَ هذا في حد ذاته انتصارًا رابعًا.

5- أما انتصاري الخامس، فكان أن أنجزتُ بناءَ سيارةٍ وَرَقيّةٍ يبلُغ طولُها مترين بالتعاونِ مع صديق، وعدّة أشكالٍ أخرى كُلّها صُنعَت من الورق لتكوّن من تلكَ المادة الهشّة هيكلاً صلبًا متماسكًا، لأتأكّد مجددًا مما يُمكن أن تفعلهُ يداي وقلبي بكُل الأشياء الهشّة التي أمتلكُها. قد يبدو أمرًا تافهًا، لكنه ليسَ كذلك على الإطلاق.

 

6- استطعتُ السيطرة على أشباحي التي لازمتني لسنتين ونصف السنة، وعزمتُ أمري ونفذته بإنهاءِ كتابة روايتي الأولى، كانَ ذلكَ هو الانتصارُ السادس، انتصارًا حملَ معهُ الكثير من الإجهاد النفسي، والتعب والخسائر.

7- عانيتُ طويلاً ولسنينَ متوالية من العصبية المُفرطة وعدم القُدرة على تمالُك أعصابي وقت الخلافات، هذه السنة كان انتصاري السابع أنني تعلّمتُ كيف أنهي خلافاتي بشكلٍ أكثر هدوءًا مهما تطلّب ذلك من جهد، حتى صارَ ذلكَ طبيعيًا بل ومُريحًا أيضًا في تعاملي مع أشخاصٍ بعينهم.

 

8- انتصرتُ للمرةِ الثامنة حينَ أدركتُ أنّ الآخرين أيضًا بحاجةٍ إلى الأنانية من وقتٍ لآخر، حتى وإن كانت أنانيتهُم تلك يُمكن أن تؤذيني بشكلٍ مباشرٍ ومؤلِم، لكنّهُم قَطعًا بحاجةٍ إليْها، وأننا نحتاجُ لتقبُّل أنانية الآخرين أحيانًا، رُبّما هي حلّهُم الوحيد للنجاة. التصالُح مع تلكَ الحقيقةِ كان مُهمًا لإزالةِ بعض الضيقِ والعَتَب.

9- التاسعةُ كانت في القُدرةِ على تنحيةِ مشكلاتي جانبًا لمُساعدةِ آخرين أحيانًا، رُبما كان في ذلك نوعٌ من الأنانية، إذ أنني أستخدمُ عثرات الآخرين واحتياجهُم ليدٍ تدعم في تشتيت نفسي عن مشكلاتي الخاصّة، لكنّ ذلك التشتيت ساعدني أكثر من مرة في النّظر إلى الأمور من زاويةٍ أخرى، وساعدني على الخروجِ من دوائري المُفرغة وأخذ نفسٍ عميقٍ قبلَ المواجهات.

10- كُنتُ في بدايةِ العامِ أواجهُ صعوبةً حقيقيةً في المُسامحة بعدَ إفلاتِ يدي، واستمرّ ذلكَ شهورًا متتالية، لكنّ العام لم ينتهِ قبلَ أن أصِل للتصالُح مع كُل ذلك والمسامحة. لم يكُن بالأمر السهل، لكنّهُ قد حدثَ بينَ ليلةٍ وضُحاها، ليُسجّلَ انتصارًا عاشرًا.

11- كُلّنا نحتاجُ للدّعم في الأوقاتِ الصعبة، وللمشاركة في الأخرى الحلوة، لكن لا بأسَ في ألّا نجِد من ننتظرهُم في تلكَ الأوقات، انتصرتُ على نفسي للمرة الحادية عشر حينَ أدركتُ أنني يُمكن أن أنجو في كُل الأحوال، وأنّ احتياجي لدعمهم لا يعيبني، لكنّ عدم وجودهم أحيانًا لا يُعيبهُم هُم أيضًا.

12- الانتصار الثاني عشر كانَ في الصّمت، تعلّمتُ أن أصمُت أحيانًا، أن أتوقّف عن سردِ الأحداثِ والحكايات، أو حتى المشاعر حينَ يتطلّبُ الأمر ذاكَ الصمت، تعلّمتُ كيفَ أصمُت دونَ عُزلة، وكيفَ أحكي دونَ أن أتكلّم.

13- الثالث عشر كانَ في تقبُّل اختياراتي واختيارات الآخرين، في تقبُّلي لأولوياتي التي يختارُها قلبي دونَ تفكير، وفي تقبُّل قائمة أولويات مَن حولي لأنّ لقلوبهم اختياراتٍ هم أيضًا.

 

14- انتصرتُ للمرة الرابعة عشر حينَ حققتُ حُلمًا كدتُ أتراجعُ عنه مرارًا، لكنّي استطعتُ في النهاية أن أنصُب قامتي وأتغلّبُ على عدّة مخاوف لأحقّق شيئًا أردتهُ بشدة. ولأستعيدَ إيماني أن الأحلام تتحقّق، لكنّها لا تتحقّقُ وحدها، إذ لم يعُد هناكَ معجزات.

15- انتصاري الخامس عشر ورُبّما هو الأهم على الإطلاق، كانَ في القُدرة على الإفصاحِ عن مشاعرٍ حقيقية أُكِنّها لغيري، تخطّي الخجل في المشاعر الحلوة، وتخطّي الخوف في المشاعر المُظلمة، حتى وإن كانَ ذلك لدائرةٍ صغيرةٍ ومحدودةٍ جدًا، قد تتقلّص لتُصبِح شخصًا واحدًا فقط. استطعتُ أن أجِد أمانًا وسلامًا في المصارحة، في البُكاء، في العتاب، في المحبّة، استطعتُ أن أصدُق القوْل كما أصدُق الشعور، رُبّما يكونُ ذلك ليسَ سهلاً بالنسبةِ إليّ، لكنّ أحدًا على الضفّة الأخرى قد أرسل رياح الطمأنة، فكانَ انتصاري الحقيقي في عدم فقدان الثقة أنّ هؤلاءَ موجودون، وأنّ منحَ الثقةِ ليس سذاجة، وأنّ الطمأنةَ قد تصِلُ بكلماتٍ بسيطة أو بنظرةٍ صادقة، أو لفتةٍ حُلوة، وأنّ السند لا يُمكنُ إيجاده دونَ إيجاد القُدرة على منحِ الثقة أولاً. أقولُ لهم على ضفّتهم الأخرى، الشكرُ موصولٌ أن منحونا الثقة كي نخطو إليهم على ضفّتهم بأن قابلونا في منتصف المسافة، أنتم خيرُ انتصارٍ وأجملُ غنيمة.

تلكَ الانتصارات الصغيرةِ كانت طوقَ نجاةٍ ساعدني على الخروج من العام بأقل خسائر ممكنة وبمكاسب عدّة، وبنَفسٍ قادرةٍ على الاستمرار والعطاءِ والتصالُح والمسامحة.

انتصاراتنا الصغيرة رُبّما نتجاهلها أو نغُض الطرف عنها أو لا نلحظُها أو نقلّلُ من أهميتها، لكنّها في الحقيقة هي الأهم على الإطلاق، هي التي تبني لنا أفئدةً ونفوسًا ما زالت تقوى على الأمل.

المقالة السابقة15 نصيحة مني إلى نفسي
المقالة القادمةالحب كلمة حلوة جدًا
كاتبات

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا