طاقةُ الشّك

584

بقلم/ هديل عبد السلام


بحجم تناقُضِ فتاةٍ تكرهُ صورتها على المرآةِ لكنها تحب ظلّها المُسدَلِ سوادًا على الحائط مع انكسار زاويةِ الضوء من خلفها. تارّةً تسقُط في حُبّ لغتها وما تُنسجه كلماتها من مشاعر فتهوى إليها الأفئدة في ليلةٍ موحِشة، ثم تلعنُ الحروف والكلمات التي تخرُج من فمها وقلمها في الصباح التالي، فتُنكِرُ على نفسها كُل ما كتبت، وتُنكِرُ عليهم كُلّ ما شعروا.
كُلّنا تناقضاتٍ يُحاربُ بعضها بعضًا، والعواصف التي تُحيلُ أرواحنا دمارًا كُل حين، لا يُرى منها للعامّة في النهاية سوى دوّاماتٍ صغيرةٍ أو فقّاعتين على السّطح لا تكادُ تُبينهم.

الحمقى فقط واثقونَ جدًا. كُل ما يمكن أن تأتيهِ عقولنا من إبداعٍ أو أفكارٍ أو تغييرٍ يأتي في الأصلِ من الشَّك فيما بينَ أيدينا، الشّكُ فيما حولنا، والشّك في أنفسنا، والشّك حتى في الثوابت.
وقوّتك تُقاسُ في النهاية بقُدرتك على توظيف تلكَ الشكوك لتصيرَ حطبًا توقدُ منه نارًا بدلاً من أن تصيرَ حِملاً يُثقلُ روحَك وكاهلك.

 

المُراهنةُ تكونُ على استخدام الشَّك وليس التخلّص منه، لكننا نفشل في كُل مرّة في التوصّلُ إلى تلك الحقيقةِ في الوقت المناسب، فنعكفُ جميعًا على إيجاد الوسيلة لإنهاء شكوكنا بهدهدتها كطفلٍ باكٍ أو إطعامها بضعَ كلماتٍ لا طائل منها بغرض الإسكات، وتطمينها حتى لو بأمانٍ مؤقتٍ أو طمأنةٍ زائفة.

 

الليلةُ الماضية كُنت في إحدى أوقات ذروة الشَّك، ولم أملُك من الأسبابِ ما يكفي لتبرير حالة التشكّك في المشاعر والأشخاص والأشياء إلى هذه الدرجة، كُل ما أعرفه أنّ نوبةً من الرّغبة في النّسف والتخلّص من كُل شيءٍ كانت تعصفُ بدواخلي.

 

في تمام الثانية بعدَ منتصف الليل، تمالكتُ أفكاري وفتحتُ شاشتي المضيئة وكتبتُ من ذاكرتي بضعَ كلماتٍ تنجحُ عادةً في توجيهِ شكوكي إلى مواقع الإيقادِ بدلاً من الإخماد، كي تصيرَ طاقةً لا حِملاً. ورُبّما كانت رغبةً دفينة في إظهارِ عدّة دواماتٍ صغيرةٍ على السطح، رُبّما يتلقّاها أحد فيُرسل طوق نجاةٍ أو إشارةَ منارةٍ تُضيءُ شيئًا. وعلى ذَلِكَ كتبت:

 

“من على حافّة التجرُبة وأطرافِ الحياة. كُل الوعودِ سراب، وكُل التجارب موجِعَة، كُل البداياتِ حُلوَة، لكن أحدًا لا يضمنُ النهاية. لا تُصدّقهم دائمًا فتلكَ سذاجة، ولا تُكذّبهُم دائمًا فتلكَ وَسوَسة. الوقوفُ على الحوافِ أسلَمُ للقلب، وآمنُ للروح. فالعُمقُ موحِشٌ وغامضٌ وموجِع.

لا تستعجل رؤيةَ ما خلف الستائر المُسدَلة والأبوابِ المقفولة، قد لا يُعجبُكَ ما يُمكنُ أن تراه. والمعرفةُ مؤلمةٌ على أي حال. كُن مُستعدًا لإعادة النّظر في حقائقك دائمًا، فحتى الحقائق قابلةٌ للنسف.

 لا تضعَ كُل مفاتيحك في ذاتِ السلسلة، ولا كُل ما تملك من لآلئ في نفس العقد، وجدّد إيمانك بالصناديق المُزركشةِ المُغلقة، تُغري بالفتح ولا تُفتَح.

أنتَ وحيدٌ إلى أن يثبُت العكس. ولأجلِ ذلك عليك اعتيادُ رفقتك وحدك. توقّف عن افتقادها والبحثِ عنها، وبالمثل توقّف عن افتقاد الونَس والبحث عنه، الونَس لا يأتي للباحثينَ عنه؛ استأنِس بذاتك”.

 

ختمتُ كلماتي وأنا أُكرّر في داخلي، استأنس بذاتك، استأنس بذاتك.

كانَ يعوزُني في تلكَ اللحظة إشارةً واحدة أنّ شيئًا ما في مكانه، أنّ شكًّا واحدًا يمكن أن يصيرَ شُعلةً تُنيرُ ولا تحرق. الوقتُ كانَ متأخرًا والجمعُ نيامٌ وكُل مصادر الطاقةِ والثقة من أشخاصٍ وأشياء كانَ قد واراها الليلُ والنوم وبردُ الشتاء.

 

قبلَ أن أستسلم للنومِ على وسادةٍ من الشّكوك التي لم تُفضِ إلى طاقة. أضاءت شاشةُ هاتفي برسالةٍ من غريبٍ يبعُدُ من المسافةِ أميالاً، رُبّما لا يعرفُ عني سوى تلكَ الحروف التي خططتها منذُ دقائق. لكنّ دوّاماتي الصغيرةَ بَدَت لهُ في مكانه البعيد، فقرّر إرسالَ إشارةٍ كانَ مفادُها: “حرفُك العربي أقوى مما تتخيّلينه، رجاءً لا تقطعي هذا الفيْض”.

كانَ ذَلِكَ كافيًا.. كافيًا جدًا.

 

نحنُ نستهينُ جدًا بقدراتنا، كُلّنا نفعل ذلك، ونُمعِنُ في تحويل شكوكنا إلى مِعوَلِ هدمٍ يقضي على كل تفاصيلنا الحلوة، بظُلمٍ بالغ القسوة.

كما أننا بُخلاءُ جدًا، نرى من نُحبّهم يهدمونَ أنفسهم بأنفسهم بسبب الشَّك غيْرِ المستغل ولا يخطُر في بالنا أنهم فقط في حاجةٍ إلى كلمةٍ وَاحِدَةٍ تحوّلُ شكّهم ذلك إلى طاقةِ نور لهم أولاً ثم لمن حولهم.

 

نحنُ نُجبرُ بَعضنا على التخلّي عن الكثير من الأفكار والمشاعر والأفعال ببُخلنا بكلماتٍ بسيطةٍ أو لفتاتٍ طَيِّبة لا تكلّفنا إلا القليل، فنجدُ أنفسنا ومن حولنا نتخلَّى تدريجيًّا عن الحياة بأكملها وننزوي إلى حوائط وأركانٍ يُصارعُ كل واحدٍ منّا أشباحَ شكوكه وحده ولا يجدُ من يلتفتُ إليه.

 

الشّكوك حينَ تشتدُّ أحيانًا فإنّها تورِثُنا الرّغبة في اللحاقِ برَكبِ الحمقى والمغيّبين، الغارقين جدًا في الاطمئنان الزائف، فقط لأَنَّهُم واثقون، واثقون جدًا من كُل شيء. كما أنّ الجروح المتكررة تورثُنا البحث عن صفوف أرباب اللا مُبالاةِ والتبلُّد، فقط لأنّهم لا يوجعونَ ببساطة، فاللا مُبالي لا يُصيبهُ من الوجع الكثير. كما أن كثرة الخيبات تورثُنا اليأس، لأنّ في الأمـلِ نصفُ الخيبةِ ونصفُ الخسارة.

 

لكننا في نهاية المطافِ لا نتّسقُ مع أيٍّ من الصفوف الثلاثة، فليسَ لكُل الأرواحِ القدرة على الاستسلام الدائم لليأس أو التبلّد أو الثقةِ الزائفة. فنظلُّ موصومين بالشَّك وبالخيبة وبالألم. يبقى فقط أنّ نعلم أن في ذاكَ جوهرُ الحياةِ وتفصيلها، وبغيرِه سنسقُط في بئر ٍ لا قرار لهُ من الرتابة.

 

فلا تدعوا أحبّتكم يسقطون تباعًا في بئرِ الملل والتخلّي والظُّلمة. غذَّوا أشياءهم الحلوة، أطعِموا أرواحهم بثقتكم فيهم، هم في حاجةٍ إلى الشَّك لكنهم أيضًا في حاجةٍ إلى ثقةِ من يحبّون في شكوكهم تلك. ولا تكبِتوا أسئلةَ أطفالكم ولا تحرموهم لذّة الشَّك الذي يدفعُ إلى الاكتشاف والنور.
لا تحرموا أنفسكم مُتعةَ الشَّك من أجلِ استقرارٍ زائف، أو اطمئنانٍ زائل

المقالة السابقةإيزابيل آيندي: قصص عن النجاح والألم
المقالة القادمةقهوتي الصباحية الإلكترونية.. “نون”
نون
كاتبات

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا