إيزابيل آيندي: قصص عن النجاح والألم

471

11/11/2014

السيدة الجميلة إيزابيل آيندي. في عمر الأربعين، كان زواجها ينهار، والأولاد في طريقهم للجامعة وسيتركون المنزل، وهي تعيش في فينزويلا، في المنفى بعيدًا عن تشيلي الوطن الأم. عندما كتبت “بيت الأرواح” وضعت فيه كل شيء، ماضيها كله والسيدة العظيمة جدتها والبيت الذي جاءت منه، كما حكت عن وطنها. كان تحفر لنفسها مكانًا ووطنًا جديدين، وتعرّف بوطنها القديم، كي لا تُنسى. أرادت ألا يذوّبها النسيان في شاي الوقت والأحداث العظيمة التي تدور حولها والتي شكّلت ماضيها وحاضرها.

 

بعدما كتبت باولا، وهي سيرة ذاتية كتبتها لابنتها التي كانت في غيبوبة. وبعدما ماتت الابنة، ذهب عقل إيزابيل فيما يعرف باسم “قفلة الكاتب”، أي لم تستطع كتابة شيء بعدها. في يوم ما كانت في المقهى وعرجت عليها الكاتبة الجميلة “آن لاموت”، سألتها عن أحوالها فأخبرتها إيزابيل بالأمر. قالت آن “لا يوجد ما يُدعى بقفلة الكاتب، فقط ما هنالك أن مخزونك فارغ. املأيه” وهكذا ذهبت إيزابيل للهند في محاولة لملئه. قالت لنفسها في البداية إنها لن تتحمل الفقر والعوز، لكنها أكدّت أن ما عادت به من الهند كان “الجمال”.

 

في يوم ما وهي هناك، كان الجو حارًا وسخنت منهم السيارة، فاضطر السائق لإيقافها على جانب الطريق. لم يكن بالطريق شيء إلا شجرة عملاقة، لا قرية أو مباني. فقط عدة نساء وأطفال يجلسون في الظل. اتجهت صديقة إيزابيل نحوهم، لم تكن هناك لغة مشتركة، لكنهن بدأن في تلمس شعرها الذي صبغته بالأرجواني. لمسن أساور الزينة التي ارتدتها، وقد انضمت إليها إيزابيل، فأعطتهن إياها. تأهبتا للرحيل فلحقت بهما إحدى السيدات، محاولة أن تعطي إيزابيل لفة من القماش الملون. رفضت إيزابيل في البداية لكن المرأة أصرّت، وعندما أخدتها إيزابيل أخيرًا وفتحتها، وجدت فيها مولودًا. كان حديث الولادة جدًا لدرجة أن حبله السري كان مربوطًا ومعلقًا بالانتظار. فزعت وحاولت إرجاعه للمرأة، لكن الأم رفضت.

 

جاء السائق مسرعًا وخطف الطفل من إيزابيل وأعطاه للمرأة عُنوة ثم جذب السيدتين وأركبهما في السيارة وانطلق. بعد برهة أفاقت إيزابيل مما حدث، وسألت السائق: “لماذا أعطتني المرأة الرضيع؟” ردّ السائق بلا اكتراث: “إنها مولودة أنثى. من يريد بنتًا على أي حال؟”.

 

تقول إيزابيل: “أعطتني هذه المقولة صدمة أفاقتني من أنانيتي. كنت مغرقة في الحزن والاهتمام بشأني الخاص، بينما العالم من حولي غارق في العوز والمعاناة. هنا قررت توظيف المال الذي حصلت عليه من ترويج رواية “باولا“. كنت حافظت عليه في صندوق خاص به وحده، لا ألمسه، وأقول سأفعل به شيئًا لأتذكرها به. وها قد حانت لحظته. أنشأت مؤسسة “إيزابيل آيندي” التي تساعد الفتيات والسيدات في تحسين حياتهن. مضى على هذا الأمر الآن 16 أو 17 سنة، وما زالت صورة تلك الرضيعة تطاردني، ولم أنفكّ أفكر فيما كان بمقدوري تقديمه لها. كان من الممكن تبنيها مثلاً وأن أعطيها حياة جديدة خاصة بها”.

 

من المؤلم جدًا، مؤلم حدّ الفزع، ما وصفته إيزابيل آيندي عن الانقلاب العسكري في تشيلي. كان الرئيس سلفادور آيندي ابن عم والدها، قد تناول الغداء معهم قبل ثمانية أيام من الانقلاب، وقال بلمحة عابرة: لن أترك الرئاسة إلا عند انتهاء المدة، أو ليحملوني خارجًا وقدماي تسبقاني. كان اشتراكيًا، محبًا لوطنه، أجرى عددًا من التأميمات ووزع الأراضي على المزارعين، ووفر اللبن الصناعي لملايين الرُضّع المصابين بالجفاف. لم يعجب الحال الولايات المتحدة الأمريكية وقرر الرئيس نيكسون فرض الأوضاع الاقتصادية الصعبة على تشيلي، بفرض أنها ما دامت اشتراكية فهي منضمة فعليًا للمعسكر السوفييتي الشيوعي. في ذلك الوقت كانت ثقافة “إما أو” سائدة، كما هي اليوم في بلدنا.

 

حصل الانقلاب، واستمرت إيزابيل في تشيلي لأنها ظنت كالملايين غيرها أنه سينتهي سريعًا. لكنها لم تستطع مواصلة العيش في بلاد يتحدثون فيها عن الاختفاءات والتعذيب والقتل على الإفطار، فرحلت إلى فينزويلا. إن ما حدث في تشيلي يستحق حقًا الدراسة، كي لا يكرر التاريخ نفسه مع شخوص مختلفين. يجب أن نكون أكثر حيطة ونباهة، حتى لا تنسحق منا إنسانيتنا.

 

تحكي إيزابيل أنها تحمل ابنتها في قلبها، بعد أن ماتت من البروفيريا وتأخر في التشخيص وغيبوبة طالت عامًا، جاء الثامن من يناير ميعاد كتابتها السنوي لتسألها والدتها “ماذا ستكتبين؟” فردّت إيزابيل أنها لن تكتب شيئًا، قالت أمها “يجب أن تكتبي وإلا ستموتين”. هكذا أخذتها من يدها لمكتبها، أجلستها عليه وقالت إنها ستعود لاحقًا. بعد ثماني ساعات عادت لتجدها قد أفرغت كل دموعها وشرعت في كتابة رواية، تبدأ هكذا: “اسمعي يا باولا، سأكتب لكِ ما حدث كي لا يفوتك شيء عندما تستيقظين”.

 

تحكي إيزابيل أيضًا عن أول رواية لها، “بيت الأرواح”، التي كتبتها في صورة خطاب طويل لجدها الذي كان في الثامن من يناير 1980 على حافة الموت. وجدت نفسها تكتب كل شيء، كل ما حدث لها في طفولتها وشبابها، كل ماضيها وحاضرها. أصبحت بعد ذلك تبدأ كل مشروعاتها في الثامن من يناير، نوعًا من التبرّك بالميعاد، لكن الأهم، نوعًا من الالتزام السنوي. تقول: “أستيقظ مبكرة جدًا، فأنزّه الكلاب وآخذ قهوتي وأذهب لمكتبي -تسميه بيتي الصغير أو لا كاسيتا- وأجلس إلى جهاز الكمبيوتر، لا أعرف عمّا أكتب فالشخوص يأتونني وحدهم، ولا أعرف ما الذي تدور حوله الرواية، فهي تحكي نفسها. تتلبسني الشخوص والحكايات فأبدأ بالحكي. لا أفعل شيئًا سوى أن أكون “موجودة في المكتب، وكل شيء يأخذ في الحدوث”.

 

في روايتها “مذكرة مايا” تحكي آيندي قصة مراهقة يتوفى جدها فتدخل بحرًا من التوهة والمخدرات، وتنتهي بها الحال مختبئة مع جدتها في إحدى الجزر المحيطة بأمريكا اللاتينية، هروبًا من العصابات التي استغلتها استغلالاً سيئًا في لاس فيجاس بالولايات. تقول آيندي إنها استوحت فكرة البطلة من حفيدتها ذات الخمسة عشر عامًا، تضع السماعات في أذنيها طوال الوقت ولا تقرأ ولها صديق يعاملها بفظاظة. لم تفلح كل نصائح إيزابيل في توجيه الحفيدة نحو ما تراه الأصوب، فقررت أن تكتب لها رواية. لم تذكر إيزابيل تأثيرها على حفيدتها لكني أعتقد أنها ربما تتعلم الدرس بالطريقة الأصعب.

 

كتبت حتى الآن واحدًا وعشرين كتابًا، ما بين قصص المغامرات والحكايات التاريخية التي تخلط فيها بين الحقائق والواقعية السحرية والسيرة الذاتية. نالت العديد من الجوائز مثل: وسام جابرييلا ميسترال للاستحقاق، وهي أول سيدة تحصل عليه، وجائزة تشيلي الوطنية للأدب، وأخيرًا ميدالية الحرية المقدمة من رئيس أمريكا في عام 2014.

 

تتحدث إيزابيل أيضًا عن الحب الذي وجدته لاحقًا في حياتها، وهي التي تزوجت صغيرة جدًا من “أول رجل نظر إليها مرتين” كما تقول. فيما بعد، حصلت مشكلات في حياتهما وفقدا التواصل فانفصلا. جاء المحامي والكاتب ويلي جوردون في طريقها، تلامست أفكارهما ومشاعرهما معًا فتزوجا. تقول آيندي: لكل حكاية نهاية سعيدة، ونهايتي السعيدة هي عثوري على الحب. أليس ذلك رائعًا؟

_________________________
المصادر:
1- https://www.youtube.com/watch?v=OZB94Q4Wkl8

2- https://www.youtube.com/watch?v=3VwSP92gvzI&noredirect=1

 

 

 

المقالة السابقةالأشواك في فلسطين تطرح ورودًا
المقالة القادمةطاقةُ الشّك

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا