نهاية عام كبيس، مرت ساعاته ببطء شديد وشهوره بسرعة البرق. مليء بالإحباطات والصعوبات، أحاول المقاومة حتى لا يأتي العام الجديد وأنا ساخطة هكذا، أحاول تذكُّر لحظاته السعيدة، تغرقني اللحظات الثقيلة ولكني سأستمد منكم بعض القوة وأواصل تقليب صفحات ذاكرتي، حتى أجد بعض اللحظات السعيدة لأضعها هناك أمام تلك الأليمة، فربما لم يكن بهذا السوء..
1- رقصة مع الرياح
على هذا السطح المحاط بالخوص ذي الإضاءات اللطيفة والقطة المشمشية التي تظهر حينًا وتختفي حينًا، في إحدى ورش العلاج بالحركة والرقص كان الجو باردًا، ولكني كنت أشعر بدفء لم أعهده من قبل. دفء جعلني أطلق العنان لشعري في الهواء غير مكترثة إذا شرد عن مساره المفترض، دفء جعلني أنظر لنفسي في المرآة لأرى امرأة لم أكن أعلم بوجودها، طقوس مقدسة لا أستطيع وصفها جعلتني أشعر أني محاطة بهالة من السحر، تبدأ عند ابتسامة “حليمة” ثم تنغرس في أعماق روحي وروح الجميع، منذ اللحظة التي أخلع فيها حذائي أثناء الدخول وحتى أنظر في المرآة وأنا أعاود ارتداء حجابي، مستنكرة هذا الانعكاس الذي لا يشبه هذه التي عرفتها منذ قليل. أنظر فوقي فأجد القمر يختلس النظر إلينا ثم يختبئ وراء سحابة ثم يختلس النظر ثانية. تدور موسيقى “Tango To Evora” فتطفأ الأنوار، وترقص بنا الرياح كحفنة من التراب، تطفو بنا بخفة يمينًا ويسارًا، إلى الأمام ثم إلى الخلف، تدور بنا دورتين ثم تتجه بنا الى اتجاه آخر.
تمر الشهور وأنظر إلى المرآة، لا أجد هذه المرأة التي كنت أراها في هذا المنزل، ولكني أعلم أنها بداخلي في مكان ما، فقط تحتاج خلع حذاء الأحكام على الباب، وترك الزمام للرياح لتقودها في رقصة سحرية على ضوء القمر.
2- لحظة التعري
كنت أكتب منذ طفولتي ثم أعود لأقرأ ما كتبته بعد سنين، لأجدني أتعاطف مع هذه الفتاة التي تحكي قصصًا لا أتذكرها. لم أكن أمتلك من الجرأة ما يمكنني من عرض ما أكتبه حتى على أقرب المقربين، حتى شجعتني ورشة الكتابة التي حضرتها، كنت خائفة من خيبة الأمل التي أتوقع أن تصيبني عندما تُقيَم كتاباتي. كنت أرى نفسي كمن يغني في الحمّام فيجد صوته رنانًا فيعتقد أنه يستطيع الغناء، ولكنه يخاف عندما يغني أمام الجمهور أن ينهال الطوب فوق رأسه.
“أعلم أن هناك ما هو أعمق يا رضوى”، قالتها لي مديرة التحرير ومدربة الكتابة في هذه الورشة، أعلم جيدًا أنها على صواب وأنني أكتب لهم من وراء ستار أخبئ خلفه هشاشتي وضعفي، تشجعت لأكتب تدوينة كما لو أن أحدًا لن يقرأها، ثم حاولت طمأنة نفسي ونشرها لبعض المقربين فقط، وجدت منهم من التشجيع والإعجاب ما جعلني أغمضت عيني وضغطت بسرعة على زر النشر للعامة. كنت أشعر بالتعري من كل هذه الطبقات من الزيف الذي طالما أخفيت وراءه مشاعري التي أشعر بالخجل الشديد تجاهها، ولكني أيضًا شعرت بالتحرر والسعادة عندما احتضنني قبولهم وإعجابهم وتشجيعهم.
يقولون إنني الآن كاتبة، يقولون إنني واحدة من هؤلاء الكتاب الذين كنت أنظر إليهم لأعلى، أحيانًا لا أصدق هذا، ولكنني حينها أسمع صوت مديرة التحرير وهي تخبرني “صدقي يا رضوى”.
3- لأنني أستحق
رأيت صورة هذا الكرسي الخوص الهزاز ذو الشلتة الملونة والشمس تغطيه وكرة الصوف بجواره، شعرت كما لو أنني أجلس عليه وأتأرجح، حتى أنني أحسست بدفء الشمس يتسلل إلى أناملي. وجدت نفسي أبحث عنه على صفحات الإنترنت، لم أجده، لكني وجدت هذا الكرسي الذي طالما حلمت به منذ طفولتي، أثناء مشاهدتي للمسلسل “friends”. أتذكر الصديقين وهما يتأوهان من الراحة عندما ألقيا بظهريهما عليه، ثم بضغطة زر يرتفع الجزء السفلي منه لتتمدد أرجلهما عليه، ليجدا فيه راحة تجعلهما لا يستطيعا القيام من عليه طوال اليوم.
لا أعلم لماذا لم أتذكر رغبتي الشديدة لشراء هذا الكرسي من قبل، لكني لم ألُم نفسي كثيرًا، فقط علمت أن الوقت قد حان لشرائه. أشعر أنني أستحق الغرق في هذه الراحة وأنا أتمدد أمام فيلم أجنبي وطبق من الفشار وكوب من الشوكولاتة الساخنة. أستحق هذه الـ5 دقائق الصباحية التي اتأرجح عليه فيها وأنا أتمتع بالشمس المطلة من النافذة وكوب الشاي باللبن والموسيقى التي تبشرني بيوم لطيف، سينتهي في حضن هذا الكرسي الذي استطاع بالفعل احتوائي.
كان عامًا كبيسًا كما قلت، ولكنه لا يخلو من الصور الجميلة والكثير من اللحظات الدافئة والمبهجة مع الأصدقاء، الكثير من لحظات تكدسهن في سيارتي والكثير من الغناء والرقص وأكياس المشتروات، الكثير من الوجبات التي تعدها لي أمي بحب، الكثير من نظرات الامتنان التي أراها في أعين الناس، والكثير من اللحظات اللطيفة التي لا يسعني ذكرها هنا.
بالتأكيد ستمر الغمامة السوداء كما مر الكثير من قبلها، فقط أحتاج أن أُذكِّر نفسي بأنه لا يزال هناك العديد من المقطوعات الموسيقية التي تناديني لأحلق معها، والعديد من الأعين التي تتوق لبعض الوقت الدافئ معًا. وبهذا الكرسي الهزاز الذي يفتقدني وأفتقده كثيرًا.