لكل حكاية بداية ومرة أولى، يقرر أن يفعل شخص ما شيئًا لأول مرة، وحينها فقط تكون حكاية تستحق السرد، وهكذا تستحق التفات السامعين.. وهكذا كان لكل موقف جلل بحياتي بدايته بفعل خارج عن طبيعيتي.
تنعشني محاولاتي المغايرة لإيجاد السبل، تضيف إلى رصيدي الشخصي يقينًا وثباتًا عند الحكي، فبينما كنت صغيرة غير واثقة مما أحبه وما أريده وما لا غنى عنه لأتجاوز الأيام وتتجاوز هي، وأقرر تذييل كل اختيار منها بيقين تام، هكذا تتمحور مرتي الأولى عادة لاختبار قدراتي ورغباتي واحتياجاتي وماهيتي.
لا زلت أؤمن أن السبيل الأمثل لتعلم العوم هو أن تكون على شفا الغرق، أو تشعر بالتهديد الحقيقي لتقرر التخلي عن مخاوفك الغبية، بينما تتربع في سلام داخل الـcomfort zone والتمسك برغبتك الأولية التي سكنت الإنسان الأول وجعلته يتحايل على كل الظروف المحيطة، وهي أن تحيا فقط، أو أن يكون السيناريو الخاص بك ورديًا وتقرر أن تتعلم، فتجني المعلومات من سبلها الواضحة، لكن الحياة ليست وردية على الدوام، لذا كان الرصيد الأكبر الذي ساهم في تكويني هو حصاد تجارب كثيرة دخلتها بكامل إرادتي لأختبر غرقًا ما توقعته مع أولى خطواتي بهذه التجربة.
تعلمت هذا الدرس صغيرة من والدي، عندما رآني متأزمة لكوني خسرت بلعبة ما مع أقراني، ليخبرني أنها لعبة والغرض الأساسي منها أن تتسلي وتستمتعي بوقتك، بالتالي من الغباء أن تربطي استمتاعك من عدمه فقط بكونك انتصرتِ، فقد تستمتعين رغم تكليل اسمك بنهاية المطاف بلقب الخاسر الأكبر وليس فقط الخاسر! كما أننا نأسف لك، فلم نلدك ملاكًا أو نبيًا وليس لديك كل الحلول أو العلوم أو المعرفة المطلقة، وعلمك بقانون اللعبة لا يدرأ عنك إمكانية الخسارة، ولكن بالتأكيد كل لعبة ستخرجين منها خاسرة ستعلمك كيف تتجاوزين باب الخسارة هذا لاحقًا في أشواط قادمة، ولكن الأهم أن لا تملِّي اللعب، فهو الوسيلة الوحيدة لتتعلمي فنون النجاح.
لم أكن أعلم أن هذه الكلمات البسيطة التي تفوَّه بها والدي، مداعبًا دخان سجائره، أنها أول دروسي في الحياة وأهمها، وحجر الأساس بتكوين شخصيتي.
عندما أصبت بأعتى وأقوى دوامات الاكتئاب -فهي كثيرة والحمد لله- وكانت رغبتي الملحة الوحيدة بعقلي أن أتوقف عن التقدم، فأنا أتألم ألمًا مبرحًا، وعلى ما يبدو أني لا أتعلم بشكل كافٍ، وهذا تقصير كبير بحق ذاتي لا يمكنني غفرانه، لتزورني كلمات والدي من جديد على لسان إحدى صديقاتي المقربات، تخبرني بكوني محظوظة لأني أعرف الوقت المناسب للرحيل وعدم التهاون عن هدم المعبد على رؤوس الجميع، بينما أقف لأحظى بحظي من الخسارة بلا ندم، ولكن بثبات الراغب في ترتيب أوراق الهزيمة. صدمتني كلماتها، فقد كانت من أولى المواقف التي أراني فيها بعين غير مجحفة ومحبة بنفس الوقت.
أصابتني الصدمة بذهول لأبتسم ابتسامة كبيرة بعينين ممتلئتين بالدموع، ولكن في غاية السعادة، فقد شعرت للمرة الأولى أني جد محظوظة، وليس كما اقتنعت دومًا بأن ليس لي من حظ الدنيا كثير، فقد وهبني الله الرغبة في التجربة وسهر على خطواتي ليحميني حين فشلت فشلاً ذريعًا يليق بجلل الحدث، ورغم وقوعي أرضًا بالقبضة القاضية كلاعبي الملاكمة لم يتركني لهواجسي وحساباتي الدنيوية الرثة، ليخبرني أني قد أكون اختبرت شعور الغرق الحق ولم أكن على شفاه، ولكن الأهم أنني حققت نظرية والدي وعشت حد الثمالة، وتعلمت بينما قررت أن أعيش التجربة بصدق النهم للمعرفة.
قد أندم على كثير من الخطى التي خطوتها، لرغبة متجددة داخلي بتعديل المسار وتقليل الخساير، ولكن الحقيقة كوني لست نادمة على الإطلاق، فقد عشت كما اخترت أن أعيش، وهذا يستحق مني كل فخر بذاتي وشكر كبير لإله حانٍ احتضن تجربتي ورحمني عند الفشل.