ذاكرة المشاعر 1.. “دهشة”

554

توقفت عن الاندهاش منذ زمن، لم يعد هناك شيء قادر على إبهاري، لا المولات الضخمة، ولا كل الابتكارات في شكل التشيز كيك ونكهات الآيس كريم، ولا الألعاب التفاعلية التي يمنحوها لنا للهروب قليلاً من آلام الواقع.

 

أتعامل مع كل شيء على أساس كونه مملاً ومكررًا، الحياة صارت أكثر تعاسة، أسافر إلى بلد جديد يحبه الجميع، فأعتزل العالم في غرفة فندق صغيرة، لأكتفي بالتحديق في السقف والفراغ، أسافر مع الأصدقاء، أبذل قصارى جهدي في خوض المغامرات المدهشة كما ينصحني برجي اليومي، أجرب ركوب الباراشوت فلا أشعر بالطيران كما يشعر الجميع، أشعر فقط بألم ممضٍ في ظهري من جراء الأربطة الكثيرة، أتأمل العالم من أعلى فلا يفرق معي عن أسفله، مجرد مساحات شاسعة بلا طعم أو تفاصيل أو روح.

 

أستمع إلى نصائح من حولي بأخذ فترة ابتعاد عن الضغوطات والتوترات، عن تأمل الحياة على مهل، السماح بلذة التفاصيل بالنفاذ إلى عروقي من جديد، من إدراك التفاصيل الصغيرة والجمال من حولي، لكن بيني وبين نفسي أعلم أن نصائحهم كلها بلا جدوى، لأنني فقدت هذا الشعور المباغت بالدهشة العارمة، الدهشة التي تثير قشعريرة بعينها من أعلى عمودك الفقري إلى أسفله، والتي تجعلك تدرك أن هناك الكثير لا يزال ينتظرك، وأنك لم تنتهِ بعد من الاستكشاف والتعلم والمعرفة.

 

أنظر في وجه طفل يجلس في مقدمة عربة التسوق التي يدفعها والداه، أفتقد مثل نظرته المتسعة المندهشة التي ينظر بها للعالم من حوله، تصعد العربة على الممر الكهربائي الذي يأخذنا إلى الطابق العلوي، فيهز رأسه جذلاً، تكفيه الأشياء الصغيرة ليبدأ معها عالمًا كاملاً من هذا الشعور الممتع الذي يدفع الحياة إلى العروق، بينما أودعها أنا بتسربه ببطء من أفكاري. كيف يمكننا أن نسترجع نظرة التعرف الأولى إلى الأشياء؟ هل النضج يجعلنا أكثر تقبُّلاً لفكرة الانتهاء؟

 

أتذكر أيام ولت منذ زمن، كنت أملك هذه النظرة المندهشة الدائمة، شغف الفرجة على الملابس في فاترينات العرض، دون أن أملك المال الكافي لشرائها، انتظار كتاب جديد لكاتبي المفضل، وتوفير كل قرش من مصروفي من أجله، والسعادة بوردة أشتريها في الطريق إلى المدرسة، أضعها بين دفتي الكتاب حتى تجف.

 

اليوم أشتري الكتب بلا حساب، أرصها في المكتبة حتى تفيض، أشتري الملابس التي تعجبني ولا تعجبني، لكنني أتوقف عن شراء الورود لنفسي، لأنني في الواقع لا أعتقد أنها تستحق.

 

لكن ذات ظُهر، وبينما يسعى الجميع نحو منازلهم بعد يوم شاق في المدرسة/ الجامعة/ العمل، أقرر ترك سيارتي والتخلي عن القيادة في هذه الشوارع المزدحمة البائسة، أختار الجلوس في مقعد خلفي لسيارة أجرة، أتأمل وجوه الأشخاص العابسين الذين يركضون أسفل الشمس في كل اتجاه، لا يفكرون سوى في العودة إلى منازلهم أو إنجاز مهامهم المتبقية، حتى أنا، أفكر في مشواري القادم بمزيج من التعب المسبق والقلق، أود لو تمر عقارب الساعة بسرعة قصوى، لأنتهي منه وأعود من جديد إلى غرفة مغلقة هادئة، في وسط كل هذا الصخب.

 

يقف أحدهم أسفل الشمس، في زحام السيارات والبشر، أمام مدخل بنك يتدافع عليه الناس سعيًا لإنجاز مصالحهم، ليطلب كوبًا من العرقسوس البارد من عربة صغيرة تقف في الجوار، يتوقف الزمن عند هذا الشخص الذي ينسى كل هذه الأعباء والزحام والحر والضيق والتراب، ليقف مستمتعًا بكوبه المشوب بقطرات الماء المتبخرة المغريّة، ينظر حوله مبتسمًا، يتناوله رشفة رشفة على مهل، وكأنه يملك الدنيا.

 

أنظر إليه من خلف زجاج السيارة الخانقة، يبتسم لي مشجعًا ويتناول ما تبقى من كوبه ببساطة، يضعه على العربة من جديد ويكمل طريقه بخطوات بطيئة غير متعجلة، وقتها فقط، أتمكن من استعادة شعوري بالاندهاش!

المقالة السابقةما هي أضرار الحزن وتأثيره؟ تأثير الحزن على القلب والجسم
المقالة القادمةمش هنفرح بيكي؟!
روائية وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا