صباحاتها مُختلفة.. دائمًا.
في مرآتها تنظر، شيءٌ ما ينقصُ طلتها، قليل من الكحلِ ربما، أو أحمر شفاه أكثر وضوحًا، تكتشف بعد تعديل أو اثنين أن الألوان سيّان، وأنه لا شيء ينقصها سوى عينين تتجمل لأجلِهما، تلحظان أن فيها شيئًا قد تغيّر، تتخيل لمعتهما وتكتب فيهما شعرًا، صحيح أنها لم تكن يومًا شاعرة، ولكنها كانت تؤمن أن الحب إن أتى، جاء معه كل شيء.
طريقها طويل جدًا، في كل يوم، وهذه ليست المشكلة.. المشكلة أن لا شيء يهوّن عليها ذلك، تفكر فيه مجددًا، لو أنه كان هنا. هل تقصّر كتفه الطريق إن هي أراحت عليها رأسها؟ هل تهون ضوضاء الطريق ويهون ازدحامه لو أن كفه احتضنت كفها؟ تبتسم للفراغ وتغمض عينيها، وتُربت بيدٍ على الأخرى، “قريبًا يقومُ هو بهذه المهمة”.. تقولها في نفسِها، لنفسِها.
الحبُ لا يزورها، وفي انتظارِه تبدلت من حالٍ إلى حال، قاومت في البداية، لأنهم قالوا لها: “البنت المؤدبة متحبش”، وأدركت بعدها أن الحصون التي فرضوها حول قلبها ما منعت الحبَ وحده، وإنما معه حجبت النورَ والهواء؛ تمردت، استجمعت قواها، شغفها، ورغبتها في أن يحضر لها أحدهم باقة زهرٍ وخرجت للعالم، صادفت كثيرين، وكثيرون أعجبوها، ولكن لا عين أبصرت فيها حبيبًا، إلا وكانت فيها صديقة، بكت في المرة الأولى، وتعجبت من المصادفة في المرة الثانية، ولكن في الثالثة، أصبح الأمر مثيرًا للضحك أكثر من أي شيء آخر.
هي تريد أن تحب، لمَ؟ لا تعرف، أو أنها على الأرجح لم تفكر في السبب، ربما لأن الناس كلها تحب، لأن لديها خططها وأحلامها، وتوقعاتها العالية التي تتمنى لو أن أحدهم جاء ليحققها، أو ليخذلها بشأنها حتى، ربما هي تتمنى أن تزهر مثل فُلانة التي ملأها الحبُ بهجةً وغيَّر في ملامحِها، أو تريد أن تبكي كأخرى منحها الحبُ بخلاف بعض السعادة، نصفَ دائرتين من السواد تحت عينيها، من فرط ما سهرت.
لا أحد منّا يعرف لمَ يحب، أو لمَ كان يريد أن يحب، هي فطرتنا على ما يبدو، وغريزة منحنا إياها الله وامتحننا بها، ومنّا في الحب المحظوظون ومنّا من هم دون ذلك، منّا من صادفه مرة ومرتين، ومنّا من عاش عمرًا ولم يجده، أو وجده ربما ولم ينتبه حينها، وندم في وقتٍ لا نفع فيه للندم، أو لم ينتبه أبدًا.
قررت بعدها أن تتجاهل. إحداهن قالت لها إن الحبِ لن يأتي إلا إن توقفتِ عن انتظاره، فعلت ولكن الحب كان ذكيًا، إذ أدرك أن تجاهلها كان مقصودًا، ولمّا وجدها تتمادى، تمادى، فزادها الغيابُ شوقًا، وأدركت أنها تخسر، مرةً لأنها تتجاهل نفسها التوّاقة، وخسارة أكبر بأن ألبست قلبها قناعًا ليس له، وبأنها يومِ فكرت أن تخدع.. ما خدعت إلا نفسها.
ولكن كيف السبيل لأن تحب؟
لو أن للأمر دليلًا يتناقله الناس في ما بينهم، لصارت الأمور أسهل، لكن ما يصلح لقصة لا يصلح في أخرى، وما يزيدُ من حلاوةِ حكايةٍ قد يفسد أخرى، لو أن هناك سبيلًا نسلكه حين نسمع دقة قلوبنا الأولى، ما ضِعنا ولا كنا لنضلَ أبدًا. وهي لأجل أن تقِي نفسها شر الضياع جاهدت، سمعت من هنا قصة، وقصة من هناك، قدمت نصحًا، وسمعت الناصحين، وصارت بين المحبين موثوقةً صاحبةَ رأي، ولكنها إن تعلق بها الأمر خابت وفشلت.. بدلًا من مرةٍ مرات.
في حيرتها كانت تظن أنها وحدها، والحقيقة أننا في الحب نظن أننا وحيدون.. متفردون، مع أننا “كلنا كلنا في الحب سوا” على قول السِت، الجميع يقول “بحبك”، الجميع يسمع الأغنيات نفسها ويقول إن أحب نفس العبارات، ولكننا مع ذلك نزعم -كلٌ بشأن قصته- أننا نمتلك الحكاية الأروع، والتي ليس لها مثيل، ومع ذلك، ننتهي جميعًا النهاية نفسها، بشكل غريب.
تمرُ الأيام، وما تزال هي غارقة في حيرتها وفي وحدتها، تذكُر أحباءَ قدامى وتضحك على أسبابِ تافهة حالت بين قلبها ومراده، وتفكر في طيف حبيب جديد يلوح، وهي تعرف أنه سيرحل كمن سبقوه، ولكنها لا تعترض السبيل أمام قلبها، تمنح الفرصة ليعينها كي تلمعا، ولقلبها أن يدق، يحسدها الوحيدون، ويقول لها العالقون في براثن الحب إن “بلاش”، ولكنها تتشبث بالتجربة، وتتمسك بحبال الأمل، حتى النهاية.
لا أحد منّا في مأمن من العذاب، لا الذين يحبون ولا الذين من الحب قد تعافوا، ولا الذين يبحثون عن الحب ككنز، وهم يعرفون جيدًا أن قلوبهم به ستلتاع، ولكننا نحب.. وسنحب، وسنفكر في الحب حتى لحظتنا الأخيرة، ويا ليتنا نعرف أن أنفسنا بالحبِ أولى، أكثر من أي شخص، وقبل أي شخص.