طبق سلاطة لا ينتهي

747

صنعت منذ قليل طبقًا كبيرًا جدًا من سلاطتك المفضلة يا أبي، الخضراوات الطازجة جدًا مع البطاطس والبيض المسلوقين، مع دريسينج من الليمون وزيت الزيتون والملح والثوم، لم تكن تطلق عليه “دريسينج” بالطبع، ولا حتى “صوص”، كنت ستقول إنه “حِياء”، مع التركيز على خروج كل حرف من مكانه الصحيح. كما تتوقع تمامًا، لم أشبع بعد الانتهاء من السلطة، أنا أحاول ترويض معدتي هذه الفترة، وفي هذا الشتاء القارس، واكتفيت بعدها رغم جوعي الشديد بكوب ساخن وكبير من الشاي الأخضر المُحلَّى بالعسل، وموزتين، نعم أنا أستظرفه الآن أكثر مما كنت.

 

اشتركت مؤخرًا في الجيم، للمرة الأولى في حياتي. لم تكن تسمح لنا بالاشتراك في الجيم، ولا في الكورسات على اختلاف أهدافها، ولا كنت تتحمس لأي نشاط خارج جدران المنزل في الغالب، لأنك كنت تشجعنا على التعلم الذاتي أولاً، ولأنك كنت تخاف علينا من الهروب خارج العش، أو تخاف أن نضل طريقنا بعيدًا عن شجرتك الطيبة الوارفة. حسنًا يا أبي، تفرقنا على كل حال، ولم يعد للعش الصغير -ولا الكبير بالمناسبة- وجود، نهيم جميعًا، إلا عند حضن ماما، نعود صغارًا ننتظر الفطائر المقلية الساخنة، وشوربة الخضار، وأكواب الشاي باللبن، ومفاجآت من الأصناف المختبئة في علب صغيرة غامضة على رخامة مطبخها وفي دولابه العلوي.

 

توقفت عن القراءة منذ زمن، ولكن تدوينات مي الأخيرة شجعتني على عمل روتين للقراءة، افتتحته باقتناء روايتين من معرض الكتاب، بدأت الأولى منهما واجتزت فيها كَمًّا يفاجئني شخصيًا، لا زالت قرائتي سريعة كما كانت، ولا زلت أخلط في أحلامي بين أصدقائي وأبطال الروايات. اسم الرواية “كالماء للشوكولاتة”، وبالإضافة لعذوبتها الشديدة، فإن تقاطعها مع حياتي واهتماماتي ومحور أحاديثي كان مفاجئًا وملهمًا.

 

تولد البطلة وتبدأ قصتها وتتصاعد في المطبخ، يسمى كل فصل من الرواية بوصفة طعام، ويبدأ بمقاديرها مفصلة ودقيقة، تنكشف أسرارها وخطواتها بنعومة جنبًا إلى جنب مع تصاعد الأحداث التي لا تخرج بعيدًا عن المطبخ في معظم المرات، الحديث عن البصل والتوابل والمخبوزات والحلويات ممزوج تمامًا بالحديث عن الحب والأمومة والأخوة والخذلان والألم.

 

بشكل شخصي اعتبرت هذا التقاطع رسالة أو إشارة، وقررت أنه من الحكمة أن أستجيب لها بشكل أو بآخر، حتى ولو بمحاولات متواضعة لمحاكاة الفكرة. الذين عاشروني في السنوات الأخيرة خصوصًا، يعرفون كيف يتخلل الطعام حديثي وأحلامي ويحتل موقعه منفردًا في قلبي، كتعبير عن الحب والمكافأة والغضب والملل والسعادة والحماس.

 

أنا لست محترفة، إطلاقًا، بل أعتبر نفسي فاشلة تمامًا في بعض الأصناف البديهية والتقليدية لمحترفي المطبخ، كل محاولاتي مع المكرونة بالبشاميل كانت تقترب من الفشل التام بجدارة، كما أني لا أجيد صنع الـ ستيك بشكل عام مهما استخدمت وصفات مختلفة، والخضار المطبوخ والمكرونة التقليدية لا يزيدان عن المتوسط بأي حال. ولكن ما يجعل الأمر مختلفًا بالنسبة إليَّ، أني أعتبر نفسي أفضل من يصنع أصنافي المفضلة، أو لنقل إني أشعر بالطعم في رأسي وعلى لساني أولاً، ثم أتخيله، وأحلل خطواته ومكوناته في عملية ذهنية رياضية رومانسية، ثم أبدأ التنفيذ، وأنجح معظم المرات في الوصول تمامًا للطعم الذي أحبه وأتوقعه. ربما يبدو هذا القدر من التفاصيل ساذجًا ومضحكًا، ولكني أعتبرها علاقة تقدير مرضية تمامًا، خصوصًا عندما يكون كل شيء آخر محبِط بجدارة.

 

يصبح الأمر ملهمًا ومشجعًا حقًا في وجود جمهور يتكون من ابنة مخلصة للطعام مثلي تمامًا، تقترح عليّ أن نصنع الدونتس بمجرد أن نستيقظ، وتومئ برأسها فورًا “يلا بينا” وهي تسحبني من يدي، قبل انتظار إجابتي، وتتردد على الفرن في توتر وقلق في انتظار ارتفاع الكيكة، أو أن يحمر وش المعجنات، تسأل عن المكونات بالتفصيل، وتعرف بالتحديد ما تحبه وما لا تحبه، ولا يمكن أبدًا خداعها.

 

لديَّ حافز قوي هذه المرة يا أبي، أريد حقًا أن أفقد بعض الكيلوجرامات المعتبرة، وهو ما يجعلني أحتفظ بوصفات السلاطات إلى ما لا نهاية، وأتذكرك. أفكر في مشكلات قولونك المزمنة (التي ورثت منك بعضًا محترمًا منها) كيف كنت تحاربها بطبق سلاطة يومي كبير، وأستعجب من قدرتك على احتمال الألم مع الألم دون شكوى. سنمضي على كل حال، حرفيًا. وحتى ذاك الحين، لا زال يفاجئني التشابه بيننا، الذي لا أعرف من أين بدأ ولا إلى أين ينتهي، ولكنه مر في محاولات المقاومة بطبق سلاطة كبير، لا ينتهي.

 

* هذا النص محاكاة لرواية كالماء للشوكولاتة، للكاتبة المكسيكية لاورا إسكيبيل.

المقالة السابقةمحاولات متتالية لإصلاح عطب الروح
المقالة القادمةحكاية فتاة تبحث عن الحب
آية خالد
كاتبة

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا