“خلصانة بشياكة” بخط صغير أحمر اللون، كتبتها في “النوت بوك” الخاص بي، وبجانبها رسمت فراشة صغيرة كخاتمة لعام يمكن هو الأهم في حياتي تقريبًا، ولكنه كان أيضًا الأقسى.
وأنا أحاول وصف نهاية العام لا أجد سوى “عام الآلام”، أسأل نفسي هل هناك علاقة بين التسمية و”أسبوع الآلام”، ذاك الطقس الديني الذي كنت أنتظره حتى أستطيع أنا وأصدقائي المسيحيون تناول مختلف أنواع الطعام بعد انتهاء الصوم الكبير؟ الإجابة هي نعم، ففي الحياة هناك أسبوع واحد فقط للآلام، لكن أنا عشت عامًا كاملاً منها.. لم تكن الآلام عادية، بل كانت من ذلك النوع المجيد الذي يقتل الروح، ثم يعيدها مرة أخرى للحياة، بعد أن شكَّل ملامحها وأعطاها شكلاً وملمسًا جديدين.
كان عامي مليئًا بالآلام، بداية من آلام الحمل ثم آلام الولادة ثم آلام التربية، ثم آلام ولادة امرأة تستطيع مواكبة المسؤوليات التي تواجهها والتي وجدت نفسها تحملها فجأة وحدها.
لا أصدق أنني سأغلق صفحة هذا العام إلى الأبد، وسأبدأ عامًا آخر بحكايات جديدة “نوفي”، على رأي جدتي وهي تمازحني بلغة فرنسية لا تتقنها، ولكنها تحب التفاخر بها، لا أصدق لأنه كان مليئًا بمختلف المشاعر المتناقضة، كانت كلها في مكان واحد فقط، هو قلبي، حتى أصبحت كإناء يغلي بقوة، ولكن ما بداخله ليس طعامًا أو شرابًا، بل مشاعر تتصارع يوميًا ويخنق بعضها بعضًا ولا يعلم أحد عنها شيئًا، فقط يرون الأبخرة المتصاعدة من الإناء والتي كانت تتمثل في نوبات غضب أو حزن أو صمت.
كان هناك آلام الحمل التي عرَّضت حملي كله للخطر في شهوره الأخيرة، وكان هناك آلام الولادة، وكان هناك آلام الخوف على رضيعي بعد أن زرنا كل عيادات الأطباء ونحن لا نعلم ما به، وما زلنا في دوامة التحاليل والعلاج، وآلام التأقلم على حياة ما بعد الزواج، وآلام التأقلم على حياة مدينة القاهرة الصعبة، وآلام الوحدة بعد أن بعدت المسافات بيني وبين أهلي بمئات الأميال، وآلام مراجعة نفسي على أخطائها، والآم التحول من الفتاة البسيطة الحالمة إلى الأم المسؤولة الخائفة والقلقة دومًا.. وكان هناك ذلك الألم غير المحسوس وهو ألم النضوج الذي لا نشعر به إلا بعد حدوثه بفترة، مثل الخمر التي نظل نرتوي منها فلا نشعر بالثمالة إلا في النهاية.
وكان هناك ذلك الألم الذي سببه لنا أشخاص حولنا، لا نملك أن نفعل شيئًا تجاهه أو تجاههم، نحاول أن نسامحهم تارة ونحاول أن ننسى تارة، وإذا لم نستطع فإننا نخفي جروح تلك الآلام خلف لا مبالاة أو ضحكة زائفة.
أنظر لنفسي في المرآة وأقرص خدي براحة يدي، محاولة رسم ابتسامة كاذبة على شفاهي، وأنا أسألها ولكنها كانت “آلامًا مجيدة” أليس كذلك؟
في قلبي ترتسم ابتسامة حقيقية، ويجيب بنفسه: نعم لقد كانت آلامًا مجيدة، فلولاها لما عرفت نفسي حقًا ولما استطعت أن أجد روحي بعد أن كانت ضائعة، ولولاها لما رأيت تلك الأخطاء التي ارتكبتها في حق نفسي دون أن أدري، لولاها لما وجدت بعض الإجابات لأسئلتي التي لا تتوقف أبدًا.
كانت آلامًا مجيدة حقًا، تخللتها لحظات سعادة عابرة، فهذه سُنَّة الحياة لا يمكن أن تكون كلها شقاء، وإلا صرنا كاذبين أو مُدَّعين حزنًا وننشر اليأس بين الخلق، ولكنها كانت لحظات صغيرة، مثل الفراشة التي تطير حولك وتقف على كتفك لثوانٍ قليلة ثم تطير بعيدًا فلا تستطع أن تلحق بها أو تستمتع بوجودها الدائم.
أغلق “النوت بوك” ذا الورود القرمزية، وما زال قلمي الأحمر بداخله، ثم أُطلِق صوت فيروز في أرجاء الغرفة بـ”إيه فيه أمل” وأنا آمل أن يكون عامي الجديد مختلفًا ومليئًا حقًا بالأمل.