حتى الهجر قدرت عليه

377

يوميًا في تمام الخامسة عصرًا، كنت أستمع لصوت المذياع يأتي واضحًا من شُرفة جارتنا في منزل أبي القديم بصوت أم كلثوم، كنت
صغيرة في ذلك الوقت، لا أعلم سوى أن جارتنا هذه تعيش بمفردها بلا زوج أو أولاد، ولكن حياتها تبدو مبهجة بالرغم من ذلك، الزوج
هجرها من سنوات والأولاد كلٌّ منشغل في عالمه. كانت تقول لي أمي إذا رأيت هذه الجارة، إن عليّ أن ألقي عليها السلام وأبتسم لها.
كنت أفعل وكانت تبعث لي طاقة وسعادة غير مفهومة لطفلة مثلي حينذاك.

مرّت سنوات.. كبرت وعرفت أنها مطلقة، عاشت سنوات حياتها بعد الطلاق منبوذة من عائلتها، ومُلامة من أولادها، وحذرة في
تعاملاتها مع الجيران، باستثناء أمي.. ومع ذلك لم يفقدها الطلاق بهجتها ورونقها ورُقيها.

سألت أمي لمَ اتخذتْ هذا القرار، ألم تخشَ الحياة بمفردها؟! فقالت "عشان تحافظ ع اللي باقي من عمرها في هدوء واحترام وسعادة،
كانت كرامتها متهانة وتقريبًا متجوزة ع الورق بس.. وأهو زي ما إنتي شايفة لا جوز بيشفع ولا عيال بتنفع.. وحياتها دلوقتي أحسن من
جوازة ملهاش لازمة.. وصّلت ولادها لبر الأمان واشترت راحة بالها".
"وبديت أطوي حنيني إليك.. وأكره ضعفي وصبري عليك واخترت أبعد".

***
كان هذا أول تعرف لي على عالم المطلقات، بعدها كبرت بما يكفي لأتعرف عليهن في نطاق العائلة والاصدقاء.
ما زلت أتذكر إحدى القريبات التي تطلقت لأن زوجها يرغب في ذرية كبيرة، وهي مريضة ولم تنجب سوى اثنين من الذكور، كان أنانيًا
جدًا، أناني بما يكفي ليجعلها تطلق وهي في الخامسة والعشرين وتربي طفليها بمفردها في محافظة بعيدة عن أهلها وأقاربها، كنّا نزورها
كثيرًا، كانت -رغم طفولتي حينها- تخبرني أن عليّ أن أنشأ امرأة مستقلة، كانت والدتي تبتسم وتقول لها: "متخافيش.. بربيها وإخواتها
إزاي يبقوا بنات بـ100 راجل"، تضحكان وتظل كلماتها عالقة بذهني، أعرف أنها تذهب للعمل وتقوي نفسها في اللغات والمهارات
اليدوية، تقوم بدورها كأم وأب.. ثلاثون عامًا مرّت على طلاقها، وصلت لأعلى مناصب عمل وعلم وزوجت ولديها ورأت أحفادها،
وعاشت بعد الطلاق "هنية" كاسمها، يأتي زوجها نادمًا بعد كل هذه السنوات، بعد أن هجرته ذريته الكبيرة، ليراها محاطة بأحفاد وأبناء
وذرية حق، لم يهزمها الطلاق ولم يزدها إلا تألقًا.
ماتت قريبتنا وتبقى لها أولاد صالحون يدعون لها، مات الزوج ولم يتبقَ له إلا عمله.. وهجره.
"حتى الهجر قدرت عليه.. شوف القسوة بتعمل إيه".

***
تمرّ سنوات أخرى.. تطلق صديقتي المقربة بعد أشهر قليلة من الزواج، تضع يديها في أعين مجتمع متخلف كان سيرغمها على الحياة مع
زوج سيئ الطباع، صعب المعشر، شاذ الفكر والتصرفات، ولكن لديها أبوين كانا الدعم والسند، الآن رزقها الله بحبيب وطفل في طريقه
للعالم، أظن أنها ستربيه رجلاً كما ينبغي للرجولة أن تكون، وشجاعًا كأمه وجدّيه.

صديقة أخرى مرّت بتجربة طلاق صعبة، تؤكد لي أن حياتها لم تبدأ إلا بعد الطلاق، انطلقت تحصل على الدرجات العلمية في مجالها،
ألّفت كتابًا عن المطلقات لدعمهن النفسي، واتخذت من تجربتها سلمًا تتخطى به صعوبات حياتها السابقة.

***
صديقة أخرى، تحملت باسم الحب ما يكفي من ذل ومهانة وتأجيل لقرار الطلاق، حتى صرخت طفلتها في وجهها ذات يوم قائلة "أنا بكره
بابا ومش عاوزة أعيش معاه، حتى لو إنتي عاوزة تعيشي معاه، كان عليها أن تطوي هذه الصفحة من حياتهما، راهن الزوج على فشلها
وفشل الطفلة، وراهنت هي بكل ما فيها من قوة وضعف على أن تستكمل حياتها بدونه أقوى وأفضل.. تمرّ السنوات.. تكبر الطفلة وتصبح
في سن المراهقة وتفتخر بأمها التي تشغل منصبًا قياديًا في مجال عملها، تتبدل أحوالهما تمامًا، تنظر كيف أن ابنتها سوية ومتفوقة وهادئة
الآن، كيف أنه خسر الرهان ولم يربح سوى الكُره والبعد والوحدة.. والأهم كيف كسبت نفسها من جديد.

حين أستمع صدفة للأغنية التي كانت تسمعها جارتنا في منزل أبي القديم، أتذكر معها أن كل من عرفتهن، لم يزدهن الطلاق إلا نجاحًا
وحياة جديدة سوية.
"غدرك بيّ.. أثّر فيّ واتغيّرت شوية شوية.. اتغيّرت ومش بإيديا.. وانت يا عيني.. كنت هتعمل غير كده إيه؟".

المقالة السابقةانكسر جوانا شيء وانطفت بعده المشاعر
المقالة القادمةقصة فيلم ولا عزاء للسيدات قصة كل مطلقة مصرية
باسنت إبراهيم
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا