انكسر جوانا شيء وانطفت بعده المشاعر

569

ياسمي

 

 

 

استهلال لا بأس به

الشعور بالخديعة هو تمامًا ما سينتابك حين تكتشف بعد عُمرٍ بأكمله، أن اختيارك لشريك حياتك كان خاطئًا لسببٍ أو لآخر. ولا أقصد هنا شعورك بأن هذا الشريك هو من نَصَبَ لك الشِراك، بل أن الحياة بأكملها تآمرت عليك فأضفت على عينيك غشاوة حين اتخذته حبيبًا، وجعلتك تستسهل التأقلم مع ما لا يُرضيك.

 

إلى أن أتت لحظة فقدت فيها كل العيوب ما يُبَررها أو يجعلك تتجرعها في سُكات، ولم يعد لك سوى الانفصال ملاذ. ذلك الانفصال الذي يُشبه في ألمه فَصل طبقات الجلد المُهترئ عن ذلك السليم، تصرخ منه ألمًا، لكنك مُجبَر على تحَمُله حتى تستطيع البدء من جديد.

 

أما بعد

“نادر وسيمين” زوجان، ظنا يومًا أن ليس لهما عن بعضهما بديل، فأخذا القرار بتأسيس حياة معًا، ورغم ما يظهر بينهما من اختلافات جوهرية في التفكير أو كيفية الحُكم على الأمور، ومن ثَم أخذ ردود أفعال تجاهها، فإنهما استطاعا أن ينجحا في الاستمرار في الحياة معًا لما يزيد عن عشر سنوات.

 

رقم قد يبدو قليلاً بالنسبة لأعمارهما الحقيقية، لكن وحدهم المتزوجين يعرفون كيف ينسى الأزواج مع الوقت حياتهم قبل الالتقاء والسَكَن بعضهم لبعض، لتصبح حياتهما المُشتركَة هي الحياة الوحيدة التي يتذكرانها، ويسعيان إليها.

 

ولأن الحياة لا تسير على وتيرة واحدة، يحدث من وقت لآخر شرخٌ هنا، ثم آخر هناك، ولأن “نادر” و”سيمين” قاما بغَض البصر عن تلك الشروخ، وتجاوزها دون ترميمها كما ينبغي، جاءت اللحظة التي تداعى فيها كل شيء، فآلت علاقتهما للسقوط، ليُقررا بعدها السعي نحو نقطة النهاية والانفصال.

وبكبرياء وعناد التزم الاثنان الصمت، فخَرِب ما بقى.

 

في الأول حين ترك “نادر” لـ”سيمين” حُرية الاختيار، مُعللاً ذلك بأنها ما دامت لا ترغب في الاستمرار معه فهو لن يمنعها، ناسيًا في خِضَم تمسكه بموقفه أن يسعى لإرجاعها عن قرارها رغم حياته المُفككة دونها، واشتياقه الخفي إليها، وهو ما كان من السهل على زوجته اعتباره اتفاقًا ضمنيًا على الانفصال.

 

ثم ثانيًا حين لم تستطع “سيمين” استيعاب السبب الذي يجعل زوجها يختار البقاء في مُجتمع يُشيدانه فينهار، ثم يُشيدانه ثانيةً فينهارا هما*، على حساب بقائهما كأسرة واحدة مُتحابة، ولكن في عالم جديد يفتح لهما أفاقًا رحبة تمنحهما الأمل في حياة كالحياة، وهو ما جعلها تَتَلقّى تفضيل زوجها للطلاق عن الهجرة كصفعة خذلان وخَيبَة واضحة ومُباشرة.

 

لكن “نادر” و”سيمين” لم يكونا الوحيدين اللذين دفعا ثمن ذلك القرار، فهناك كذلك “تيرما” ابنتهما ذات الـ11 عامًا، والتي رغم صغر سنها شاءت الأقدار أن يُصاب قلبها بجرحٍ غائرٍ لن يندمل، أحدثه لها والداها، مرة حين قررا الانفصال، ثم مرة أخرى حين قررا التنازع على حضانتها، والأسوأ.. ترك القرار لها.

فكيف لها كطفلة، بنظرات زائغة وروح تتلمس الخطوات، أن تعرف كيف تختار؟

 

لتجلس في النهاية أمام القاضي، يملؤها الشعور بالثِقَل، والرغبة في الاختفاء، لعل تلك اللحظة تنتهي دون أن تضطر لمُعايشتها على أرض الواقع، وحين تجد أنه لا مفر من السير على كل هذا القدر من الجَمر الذي أشعله إصرار أبيها وأمها على الفراق، تُقرر الإسراع من وضع كلمة النهاية لمُعاناتها هي لا مُعاناتهما، ولتذهب كل ثوابت العالم للجحيم.

 

نهاية مُستَحَقَّة

بقَدر ما يُمكننا الهتاف بأن المَجد للنهايات باعتبارها مَحض بدايات جديدة، وإشارة للانطلاق مرة أخرى بسباق الحياة دون انهزام، فإن الأمر ليس على هذا القدر من البساطة، ولا يَخلِف وراءه فقط شعورًا بالارتياح، والخَفَّة.

خصوصًا حين يكون في أذيال العلاقات كائنات صغيرة (غير قابلة للمحو أو التناسي) ستدفع الثمن معنا، أكثر منا أو أقل ليست تلك هي المسألة، الأمر هو أننا مع قرارنا بالانسحاب مما عزمنا على تشييده يومًا نترك خلفنا ضحايا لا ذنب لهم سوى أننا أسأنا اعتناق الأحلام، فأسقطناهم معنا أرضًا.

 

وإن كان هذا لا ينفي كَون بعض العلاقات تستحق مِثل تلك النهايات، حين يصبح في الفراق حياة، وفي الاستمرار حُكم أبدي بالموت، لهذا فقط رُبما كان على الأزواج التفكير طويلاً قبل اتخاذ القرار بالإنجاب، خصوصًا في أول الزواج. ذلك لأن أشياءً كالحُب، وحتى نهاية العُمر، وما شابه أحيانًا ما تُثبت سذاجتها من قبل الآوان بأوان.. عسانا نتجنب الخسارات غير المُبررة قدر الإمكان.

 

*ريلكه بتَصَرُّف.

المقالة السابقة15 عبارة تحتاج المطلقة لسماعها والإيمان بها
المقالة القادمةحتى الهجر قدرت عليه
امرأة ثلاثينية متقلبة المزاج، أعشق الرقص على السطور كتابةً، أُحب الفن بمختلف أنواعه وأعيش عليه. والآن كبرت وصار عليّ أن ألعب في الحياة عشرات الأدوار طوال الوقت، لأستيقظ كل صباح أُعافر حتى أستطيع أن أُحاكي بهلوانات السيرك فأرمي الكُرات المُلونة بالهواء ثم ألتقطها كلها في آنٍ واحد.

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا