تحديات الـ”استرونج إندبندنت وومان”

570

تم نشرة في 03/12/2017

ألاء

وقت القراءة : 4 دقيقة

 

لم يكن أول عهدي بمصطلح “امرأة قوية مستقلة” أو “استرونج إندبندنت وومان” جديدًا كما هي الحال بمواقع التواصل الاجتماعي، بل كان مبدأ راسخًا بوجداني وطموحي منذ لاحت أمامي سلسلة من الطموح والأهداف التي أرغب في تحقيقها كامرأة في مجتمع يفرض على النساء الالتزام بتابوه معين، ويخلع عليهن عباءة الرضا إن أتقنَّ دورهن في قوالبه، وينفر منهن ويقصيهن إذا حاولن الخروج عنها.

 

كنت بالفعل أرغب أن أكون امرأة قوية ومستقلة ماديًا واجتماعيًا وعاطفيًا، شخصًا أعتمد عليه ويُعتَمَد عليه، ليس فقط لرغبتي في تحقيق الإنجاز والنجاح كأي إنسان، وإنما لأن الحياة أيضًا في مجتمع ضاغط مثل مجتمعي لا يحترم خيارات المختلفين فيه هي حياة ممتلئة بالتحديات، تحديات تواجهها أي “استرونج إندبندنت وومان”.

 

بدأ الأمر حين كان يُنظَر إليّ باعتباري الطالبة النجيبة بالمدرسة، وبالتالي لم يقترب مني أي شاب في أغلب مراحلي العمرية الصغيرة، ذلك أنه لا بُد أن تكون الفتاة أقل ذكاءً من الولد حتى ينجذب إليها، فهو لا يستطيع أن يشعر باكتمال رجولته -غير المكتملة آنذاك- أمام فتاة تعرف ولا تخجل من معرفتها أو تُخفيها، فهو بحاجة دائمًا إلى أن يكون أكثر علمًا ومعرفة ليعلمها ويعرفها ما لا تعرفه في الحياة، ليقودها من يدها إلى آفاق لم تكن لتراها، وليكون تذكرة مرورها إلى حياة جديدة عليها، وبالتالي كانت الفتيات في سني يتصنعن البله وعدم المعرفة بأي شيء، وينبهرن انبهارًا مُصطنعًا بما يقدمه لهن الشباب حديثو السن من معرفة.

 

زاد الأمر تحديًا بدخولي للجامعة، ذلك العالم الرحب الذي يمتلئ بكل ألوان البشر، فقد كان مبدأ المرأة المستقلة يلوح في شكل حياتي كطالبة مُغتربة في القاهرة الكبرى، ودفعني لأن أتحمل الكثير في سبيل إثبات قدرتي على الاضطلاع بالمهمة، وهو ما جعل الآخرين يرون في جدعتني و”رجولتي” التي لم يروا لها مثيلاً، وقتها لم أفهم لماذا كوني فتاة مستقلة اجتماعيًا يجعلهم يعتبرونني رجلاً، ولماذا عليّ أن أتنصل من “جندري” فقط لأنني امرأة مستقلة؟

 

وبحلول منتصف العشرينيات في حياتي، وجدت كينونتي في عملي كصحفية وكاتبة، وفي تطلعي لمزيد من العلم، فكان التحاقي ببرنامج الماجستير، لكنه كلما زادت المسؤوليات والمشغوليات على عاتقي، أظهر لي مبدأ “المرأة المستقلة” تحديًا جديدًا، فحين تعمل امرأة في أي عمل وتحقق فيه نجاحًا، تشعر بأنها تحتاج أن تبذل مجهودًا مضاعفًا عن مجهود أقرانها من الرجال، وكأنها تشكر مرؤوسيها على أنهم اكتتبوها من بين عشرات الرجال ممن هم أحق منها بالوظيفة، بالرغم من احتمالية تفوقها عليهم في العلم والخبرة، تحتاج دائمًا لأن تأخذ ضعف الأشغال، ساعات عمل أكثر، مرتبات أقل، فقط لتُثبِت أنها كُفء بما يكفي لأن تُعيَّن في هذا المنصب، تحتاج لأن تُقَدِم تنازلات أكثر، وقت أقل مع العائلة، مع الأصدقاء، تأجيل الحب والارتباط لأنه لا مساحة لهذا الآن إطلاقًا، فهي تستثمر كل ذرة من طاقتها في إثبات أنها “امرأة مستقلة”.

 

ووقعت أنا تحت وطأة هذه الساقية التي لا تكف عن الدوران، حلقة مفرغة من الانسحاق النفسي والجسدي في محاولة إثبات الذات، وتحدٍ وراء آخر يلوح لي مع كل خطوة أخطوها للأمام.

 

تتابعت كل هذه الأفكار على ذهني حين كنت في زيارة لصديقتي، متزوجة في سن صغيرة وأم لطفلين، وطلبت مني أن أحدثها عن ماجستيري وكتاباتي وحياتي الحافلة تلك، وحين قصصت عليها من أمري ما لم يعجبها من مشغولياتي الدائمة التي تمنعني من الاستمتاع بالقدر اليسير من الحياة، نظرت إليّ في تبرُّم وقالت إنني أكيد أخزي العين عن حياتي، وما كادت تُنهي الجملة حتى التفتنا لصوت ارتطام شيء بالأرض، وجدناها مزهرية كسرها أصغر طفليها في ردهة منزلها، فاستدارت لتقول لي “إذًا.. تفضلين لملمة أشلاء مزهريتك المفضلة وأشلاء غيرها أم الانغماس التام في عملك ودراستك؟ يا عزيزتي إنما أنتِ في نعمة لا تشعرين بها على الإطلاق”.

 

انصرفت من عند صديقتي والأفكار تصرع رأسي، أنا حقًا في نعمة لا أشعر بها ويحسدنى عليها الآخرون؟! ألا تعرف أن كوني امرأة دائمة الانشغال يضعني أمام تحدى تأجيل الإنجاب لفترة ليست بقصيرة؟ ولخوف ضاغط ودائم من تقصيري مع أطفالي في المستقبل لاهتمامي بعملي؟ ولشبح إحساس بالذنب والندم يلوح كلما تخيلت مجرد التخلي عن عملي من أجل الأطفال؟ ألا تعرف أن جزءًا كبيرًا من قلقي يتمحور حول عدم إيجاد الشريك المناسب المتفهم لطموحي، القادر على دعمي ودفعي للأمام والإيمان بقدرتي على الإنجاز كإنسان والعطاء كأم في الوقت ذاته؟ ألا تعرف كُنه التحديات والتنازلات التي يفرضها عليك مبدأ “المرأة المستقلة”؟

 

يحدثك الجميع عن ضرورة أن تكوني امرأة مستقلة عاطفيًا واجتماعيًا وماديًا، لكن لا أحد يذكر الثمن الفادح الذي يجب على المرأة أن تدفعه مقابل تحقيق هذا، لا أحد يصرع رأسه بكم الصراعات والتقلبات التي تعتمل بنفس امرأة لا تريد الاختيار بين أن يكون لها وقت فراغ تقرأ فيه أو تستمع للموسيقى أو تتعلم لغة أو رقصة جديدة أو تسافر لأبعد نقطة في الأرض، وأن تُكَوِن أسرة وتَكوُن أحد أعمدتها، وأمًا ناجحة مُحبة، واسترونج إندبندنت وومان، يتهمون من تُبَدِّي عملها على أي شيء آخر بالأنانية وبانعدام حس الأمومة والحنان وبالاسترجال، ويتهمون من تتفرغ للمنزل والأولاد بالتخلُف والانقطاع عن العالم الخارجي وعدم القدرة على تحقيق الذات، دون النظر إلى معادلة مبدأ المرأة المستقلة الصعبة في تحقيق توازنها وارتكازها.

 

وأنا هنا لا أنصح بضرورة التخلي عن شيء مقابل شيء، ولا أقول إن تحقيق التوازن مستحيل، إنما أكتب لأنني أرغب في التحرر من مخاوف تملؤني، أكتب لأنني أرغب في أن يُترَك الأمر لاختيار المرأة دونما تدخُّل من الآخرين أو وصم من المجتمع، أكتب لأنني بحاجة لأن أرى نساء قادرات على مجابهة هذه التحديات، علّني أستمد منهن القوة اللازمة لمجابهة مخاوفي.

المقالة السابقةعندما نضرب الذاكرة بالألم
المقالة القادمةعزيزتي أنغام.. تعرفي حكاية “أوسكار”؟
آلاء الكسباني
صحفية وكاتبة مصرية.

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا