وصفتي السريَّة للصمود

306

ياسمي

 

وسط فخاخ الحياة الكثيرة، وعراقيلها الأكثر نحتاج من وقتٍ لآخر إلى “طوق نجاة”، يكون لنا سندًا عند اختبار الصعاب، حائطًا لصَدّ التجارب السلبية، والأهم ملاذًا نلجأ إليه حين تُوصد بوجوه أرواحنا أبواب العالم القاتمة.

 

يختلف هذا الطوق من شخص لآخر، بل وقد يختلف حتى لنفس الفرد من وقت للثاني، ليبقى مَنبَع شعورنا بالأمان هو يقيننا بأن هذا الطوق بحوذتنا، نستطيع أن نستلقي عليه كُلما اشتد علينا الموج، لا لأنه سيُصرِف -من تلقاء نفسه- الأزمات التي تُحيط بنا، لكن لأنه سيُبقينا سالمين حتى انقشاع الغُمَّة، حينها سيصبح لدينا من الوقت والطاقة ما يُمكننا من أخذ رد الفِعل المُناسب، واستكمال الحياة.

 

وبقَدر ما أخالني محظوظة بالعديد من أطواق النجاة بحياتي، ما يُمكن الاعتماد عليها وقت الشِدَّة، لكن الطَوق الذي أدين له دائمًا وأبدًا ولا غِنى لي عنه هو –وبلا تردد- الكتابة. ذلك الفِعل الذي اعتدت مُمارسته منذ الصغر دون أن يكون عليّ إجادته ليمنحني السَكِينة والمرفأ الآمن الخاص بي، والذي لطالما كان سَنَدي الأول والأخير، ووسيلتي لتفريغ ما يعتمر بصدري، مُعتادةً أن أجد فيه شفاءً لي مهما كانت المرحلة التي أجتازها.

 

* في طفولتي.. حين كُتب عليّ أن أختبر حياة الترحال والاغتراب، لأظل وحيدة مهما توطدت علاقاتي مع الآخرين، بسبب معرفتي التامة أنني يومًا ما سأترك تلك الحياة وهؤلاء الأشخاص دون رَجعة، لتصبح القصص التي أكتبها وسيلتي للتخلص من مخاوفي، هواجسي، وأحزاني.

 

* في مُراهقتي.. وتجارب الحُب الفاشلة اللاتي مررت بها، وأخذَتْ معها في كل مرة قطعة من قلبي واضعةً مكانها قالبًا خراسانيًا مُفرَّغًا وهَشًّا، فلا أجد سبيلاً للتعبير عما يختلج صدري سوى الخواطر الساذجة، شديدة البؤس والسوداوية التي كُنت أكتبها لأستطيع مواجهة الحياة بخِفَّة، ومعاودة المسيرة.

 

* في دراستي الجامعية.. التي لم أجد نفسي بها رغم اختياري لها بكامل إرادتي، لأصبح وحيدة وسط حِشدٍ هائل لا يُشبهني، ولا أُريد الإنتماء إليه. فأضع كل هَمي على الورق، صانعةً لنفسي عالمًا لا حدود له يسَع أحلامي الوردية، أحتمي داخله من شرور القطيع.

 

* مهنتي صيدلانية.. ما قررت تجربتها -مؤقتًا- رغم يقيني أنها لا تُناسبني وأنني لن أستمر بها، فقط من أجل كَسب بعض النقود حتى أستطيع الإنفاق على دراسة ومُمارسة ما أُحب، فكانت كتاباتي هي وقودي السري والعلني الذي يُمكنني من المواصلة.

 

* وقوعي في جُب الحُب.. حيث البدايات العذبة، التفاصيل اللا مُتناهية، المشاعر الفياضة، والكثير من اللحظات التي كان لا بد من توثيقها لعِلمي أن الزمن لن يتوقف عندها كثيرًا، تلك المخطوطات التي أعود إليها من وقتٍ لآخر فأتذكر كم كانت الحياة أسهل، وقُدرتنا على التعبير أكثر مُباشرةً، والوقت كله لا يحمل أي أولويات سوانا.

 

* أول سنتين زواج.. تلك الدُنيا الجديدة حرفيًا، وذلك الفراغ الهائل الذي أصاب حياتي بسبب تركي لوظيفتي أخيرًا، وسكني بإحدى المُدن الجديدة، بالإضافة لساعات عمل زوجي الطويلة جدًا، مع عدم وجود أطفال، لتَمُر الأيام بطيئة وثقيلة، فتصبح كلماتي وسيلتي الأعلى صوتًا من أجل التعبير عما أمُر به وعن وَقع الحياة الغريبة عليَّ.

 

* تجربتي مع الحمل.. الصعبة في تفاصيلها، والحميمة في وقعها على قلبي، أحببتها كثيرًا رغم كل ما مررت به خلالها، لتصبح مواقفي اليومية مَحَل كتابة، تملؤها المُعاناة، وتُغلفها الكوميديا والبهجة، لقُدرتي على احتواء كل ذلك النور داخل عتمة رحمي.

 

* اكتئاب ما بعد الولادة.. بمُنتهى الصدق أقول: لولا الكتابة ما كنت لاستطعت الصمود حتى الآن، الكتابة كمهنة وليس كممارسة للموهبة هذه المرة، ذلك الباب الذهبي الذي فتحته “نـــون” بوجهي حين كانت كل الأشياء تتداعى من حولي، والذي من خلاله استطعت استجماع نفسي مرة أخرى والشعور أنني لست فقط الأم والزوجة، مُفسحةً مجالاً للإنسانة التي بداخلي، مانحةً إياها نافذةً تخُصها وحدها، تفتحها على مصراعيها على العالم، فيراها من خلالها كما هي دون مساحيق التجميل، ودون أن يكون لزامًا عليها أن تقف على رأسها لتصنع مئات المهام في وقتٍ واحد.

 

وها هي السنوات تمُر بينما ما زلت أكتُب، ما يؤكد أن الكتابة هي وصفتي السحرية لعبور كل الجسور، كيفما كانت، وأيما كنت أبلُغ من العُمر. لذا لا تُضيِّعوا سنوات حياتكم دون العثور على وسيلتكم للنجاة. علمًا بأن أطواق النجاة عديدة، قد يجدها البعض في أشخاص (أم، أب، حبيب، ابن، صديق)، أو في أشياء (دراسة، وظيفة، طقس ما يتم مُمارسته عند الشعور بالضغط).

 

ليبقى أفضل أطواق النجاة -من وجهة نظري- هو ذلك الطوق الذي يبتكره صاحبه لأجل نفسه، دون الحاجة للاعتماد على عوامل خارجية، إذا انتفى وجودها انهار كل شيء. وسيلة إبداع خالصة، يبُث فيها صاحبها أجزاءً ليست بقليلة من روحه، أوجاعه، مخاوفه، بجانب ما تبقى لديه من أمل، ليتركنا بعدها أمام عملٍ فني صادق، يتماس مع من يُعايشونه أو يُشاهدونه بشكلٍ أو بآخر. 

 

تُحفة فنية تُحيل النيران رمادًا، مانحةً القلب الموجوع هُدنةً، قبل أن تفتح في النهاية نافذة الروح على براح من شأنه أن يسَع كل شيء، يُتيح لنا وَضع أقدامنا على أول المرحلة التالية من الرحلة.

 

المقالة السابقةبكرة لما تبقي أم هتعرفي
المقالة القادمةاصنع كتاب التلوين الخاص بك وأطلق الفنان بداخلك
امرأة ثلاثينية متقلبة المزاج، أعشق الرقص على السطور كتابةً، أُحب الفن بمختلف أنواعه وأعيش عليه. والآن كبرت وصار عليّ أن ألعب في الحياة عشرات الأدوار طوال الوقت، لأستيقظ كل صباح أُعافر حتى أستطيع أن أُحاكي بهلوانات السيرك فأرمي الكُرات المُلونة بالهواء ثم ألتقطها كلها في آنٍ واحد.

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا