بتحب فيروز تبقى عميق

536

فجأة وبدون مناسبة على الإطلاق غير إن القراءة بقت موضة زيها زى اللبس، ظهر مصطلح اسمه “العمق” ومعه ظهرت شخصية هي “الشخصية العميقة”، كل الناس خاصة قطاع الشباب اللي من سن 18 سنة لحد العشرينات بقت عايزة تكون شخصية ليها أبعاد عميقة، حتى لو محدش فاهم العمق ده مبني على إيه بالظبط، وبقى فيه سؤال منتشر جدًا بين الشباب الهاوي للقراءة “إزاي أكون شخصية عميقة؟”. اجتمع كل الخبراء في العمق الأدبي والوجداني إن فيه وصفة عظيمة وجايبة نتائج مبهرة لو حبيت تكون شخصية عميقة.. كانت تفاصيل الوصفة كالتالي:

 

1- فنجان قهوة (عربي أو نسكافيه مش فارق).

2- كتاب لأحمد مراد (ليه؟ مش عارفة!).

3- أغنية لفيروز (خصوصًا فيروز مش حد تاني)

4- سيجارة (لو كنت مدخن)

* يُحبذ لو الجو شتاء؛ تقريبًا بيفرق مع العمق.

 

التفاصيل دي هي الخطوط العامة اللي اتحطت للشخصية اللي محتاجة إنها تُظهر للناس إنها شخصية مش سطحية تافهة غاوية مظاهر أو ماشية مع الموضة اللي بتحدد تسمع إيه وتقرأ إيه وتشرب إيه.. وبقى فيه حُكم عام على أي حد بيسمع فيروز إنه عميق، وأي حد بيحب القهوة إنه عميق، ووصل الحُكم لنقطة أبعد وهي إن الناس دي بقت بتدّعي العُمق لمجرد التفاخر والمباهاة قدام الناس والأصدقاء إن دماغهم كبيرة ومتكلفة وجاية من زمن آخر.

 

إسقاط حُكم العمق على أي حد بيحب الحاجات اللي فوق دي ظلم ناس كتير فعلاً هي بتحب تحط نفسها في حالة جميلة لما تسمع صوت فيروز اللي جاي من مكان ما من السما، وهي حقيقي بتحب تسمع فيروز مش مدعية للحالة دي.. فيه ناس فعلاً عايشة مع الكتاب كرفيق وصاحب مش مجرد عنوان تتباهى بيه ضمن قائمة العناوين المحفوظة عشان تبان مثقفة وواعية.. وفيه ناس القهوة بالنسبة لها حياة أخرى بتهرب ليها لما الدنيا تقرر تكون تقيلة وتخنق عليها.. والملاحظ إن فيه ناس بقت تخبي إنها بتسمع فيروز وهي بتشرب القهوة عشان ميتقالش عليها إنها بتتدعى العمق!

 

زمان لما كان عندى 16 سنة اتفتحت على صوت فيروز وعرفت طعم النسكافيه اللي بدأت أمي تصرّح إني ممكن أشربه بما إني كبرت، والقراءة بالنسبة لي كانت هوا بتنفسه، والأعجب إني كائن شتوي أصيل.. وقتها كانت المنتديات هي عنوان التجمعات الافتراضية على فضاء الإنترنت، وصادف إني أتعرف على تجمع من ناس كانت بتحب كل التفاصيل دي وبتشارك الآخرين بيها.. محدش كان بيتريق على حد ومحدش قال على حد إنه بيحاول يكون عميق ومحدش قال على حد إنه بيقرأ لأن القراءة موضة.

 

الكل كان في حاله، الكل كان بيمارس ما يحب من غير ما يخاف إن حد يحطه في إطار حُكم سخيف ومش منطقي.. الكل كان بيقدّر تفاصيل الآخر وحبه الشديد لحاجات معينة بتشكله وبتشكل شخصيته فعلاً.. محدش كان بيطلق الأحكام لأن كان فيه حالة من الصدق وعدم الادعاء والتقدير لكل شخصية مهما كانت بتحب إيه وبتحبه ليه.

 

الوضع دلوقتي مختلف، وحاليًا وسط شبكات التواصل الاجتماعي الجديدة وبتفاصيل شخصيتي دي اتحكم عليّ إني “عميقة” أو بمعنى أصح “مدعية العمق” واُرهقت من إني أبرر للي حواليّ -خصوصا لو شباب صغير- إني فعلاً كده، أنا مش بدّعي حاجة عشان أطلع بشكل مختلف عن الباقيين.. بس الحُكم أُسقط وتبريراتي ضاعت لحد ما بطلت أبرر، وقررت إن اللي عايز يقول عليّ حاجة يقولها.

 

المجتمع اللي إحنا عايشين فيه بقى قاضي وعمال يحكم على كل الناس من غير ما يعرفهم بشكل أقرب، وكأنه قرر إن اللي إحنا بنحب نظهره هو ده إحنا فعلاً، واختزالنا في التفاصيل الشكلية السطحية، وقرر يعمل نفسه أعمى عن الدواخل اللي محدش يعرفها إلا لو قرب شوية.

 

وهكذا اتحكم على أي حد بيحب يطرقع في صوابعه إنه مبيعملش حاجة مفيدة، رغم إنه ممكن يكون مثقف وواعي وبيقرأ لعمالقة، بس هو محتفظ بتفصيلة زي دي لنفسه.. اتحكم على كل واحدة بتحب أم كلثوم إنها عايزة تبان متسلطنة وعايشة في دور الزمن الذهبي اللي مش هيرجع.. اتحكم على اللي بيحبوا يتفرجوا على أفلام أجنبية وبيدفعوا تمن تذكرة عشان يدخلوا فيلم إن عندهم عقدة الخواجة حتى في السينما وإنهم عايزين يظهروا بمظهر النخبة اللي بتتطلع على الثقافات الأخرى من خلال الأفلام وعايشين دور النقاد.. واللي بيقرأ لمحمود درويش ولا بيرم التونسي ولا صلاح جاهين أو كان بيحب بهاء طاهر ولا مش بيلاقي نفسه غير مع طه حسين أو الكون بتاعه عبارة عن أدب عالمي تقيل، ده بقى اتحكم عليه إنه سقراط زمانه وإنه عايش دور المثقف أبو نضارة زي سمير غانم في فيلم “الزواج على الطريقة الحديثة” وأكيد كل كلامه اقتباسات تأكيدًا على إنه مُطلع وبياكل الكتب.

 

فكرة “الحكم على الآخر” بقت قانون سائد وإحنا من زمان عندنا هواية التدخل في اللي ملناش فيه ونمشي ورا الناس نتقصى تفاصيلهم ونحكم عليهم من خلالها ونطلعهم بشكل همّ مش عليه أصلاً.. كل واحد من حقه يمارس اللي بيحبه من غير ما يخاف إن حد يحطه في إطار محدد يحكم عليه من خلاله، من حق كل واحد يسمع اللي بيحبه ويقرا اللي بيحبه ويعمل اللي بيحبه، حتى لو مكانش ماشي على هوى وذوق الآخرين، مش لازم كل واحد يمشي على باترون متفصّلّه ولو خرج عنه يبقى اتحكم عليه إنه شاذ عن القطيع ويتحكم عليه بالنبذ.. فلنُترك لحالنا ولندع الخلق للخالق وناخد من #منحكمشي شعارًا للمرحلة.

 

المقالة السابقة15 قاعدة لدهان غرفتك بنفسك
المقالة القادمة15 عادة حافظت عليهم في 2015

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا