يوجد جزء غير مستهان به من خلفياتنا عن الحب والتجارب التي لم يتسنَّ للكل تجربتها، يتكون عبر الأغاني والأفلام والكتب التي تلامس قلوبنا.
أصدق من علَّق على هذه الحالة هو الكاتب الراحل، الدكتور أحمد خالد توفيق عندما قال: “ليتنا أنا وأنت جئنا العالم قبل اختراع التليفزيون والسينما، لنعرف هل هذا حب حقًا أم أننا نتقمص ما نراه”.. في كتابه “قصاصات قابلة للحرق”.
كثيرًا ما نصاب بالحيرة حول إن كان ما نشعر به نحو أحدهم هو مشاعر خالصة أم أن خلايا عقلنا التي تعشق التكرار، تقتر قصة حب تعايشنا معها مسبقًا بفيلم أو أغنية، لتشابه بطلته بمرحلة عمرية ما مررنا بها.
ولأن الحياة محدودة الأبعاد إلى حد مُحبِط، يصير التكرار -شئنا أم أبينا- منهجًا متبعًا بشكل يومي ممل ورتيب، يتناسب مع رتابة الأيام. كما يُعَد اعترافنا لأنفسنا بذلك انتحارًا بطيئًا، خصوصًا لمن يملكون عقولاً تستصيغ الاختلاف، لكن ما باليد حيلة، فنحن صرعى هذه الدائرة المفرغة من الصور المتكررة التي تسكن ذاكرتنا، وتجعلنا نحكم على شخص ما أو موقف ما كونه مقبولاً أو لا، رغم كوننا لم نعِش هذا الموقف من قبل، لكن هذه هي الخدعة التي نحياها مُطلِقين أحكامنا على مجموعة غير حقيقية من أفكار، لم نعش أو نتفكر بمعظمها بصدق كافٍ، يؤهلنا لإلقاء الأحكام بخصوصها.
ولكن إن استطردت مع نفسك قليلاً، ستجد أن كل ما اقتنعت بكونك لن تستطيع تحمله، تفاجأت بأنك احتملته بسلاسة، والعكس بالعكس. ما يؤكد أن صورتنا الذهنية عن أنفسنا خاطئة كليًّا.
وما أعتقد أنه سببًا رئيسيًا في تكوين هذه الصورة الخاطئة عن أنفسنا، غالبًا ما يحدث بفترة المراهقة وهروب عقلنا من الاعتراف بجهله المؤقت، نظرًا للسن وضيق التجارب، فيلجأ لتعميم تجارب بسيطة عاشها أو سمع عنها، لنوحي لأنفسنا بأننا متزنون بالشكل الكافي ونملك كل الإجابات عن كل الأسئلة. فكان يصاحب نقاشاتنا تعنت واضح في استقبال الرأي الآخر، وصوت عالٍ للتعبير عن الرأي، وهذا راجع لرفضنا الاعتراف بجهلنا.
لنفاجأ مع الوقت ومع التجارب أن الحياة لا يمكن تنسيق ورودها بين الأبيض والأسود، ولكن عادة ما تسكن التجارب في التدريجات اللونية غير المتناهية التي تسكن بين اللونين. وعليه تتخذ الأحكام صورة مموهة، فنجد أن معظم المواقف أقرب للصح أو أقرب للخطأ، لأن المقاييس الأساسية لقياس مدى صحتها أو خطئها صارت كثيرة جدًا وتحمل الكثير من القيل والقال.
عادة ما يدور بعقلي كل هذا الكم من التحليلات، بينما أتابع فيلمًا أو أغنية، في محاولة لفصل التجارب المتلقاة، حتى لا أسمح لعقلي باقترار أي تجربه فيما بعد، ولكن اليوم استوقفتني أغنية لـ Aretha franklin بعنوان you make me feel like a natural woman-1967، وجعلتني أتساءل لماذا هي في غاية السعادة بينما يشعرها البطل بكونها امرأة عادية!
عادة ما تذهب الدراما الغنائية لتقديس المشاعر المبالغ بها وغير الحيادية على الإطلاق، فكان سيستصيغها سمعي إن عبَّرت عن امتنانها لكونه أشعرها بأنها المرأة الأقوى أو الأجمل أو الأذكى أو الأروع في كل شيء، فهذا يغذي غرور أبطال الأغاني عادة، لكن الوصف كان راقيًا وحقيقيًا يتعلق بالراحة أكثر من كونه يتعلق بالتميز.
إنه لشعور مريح أن يشعرك الرجل كونك امرأة عادية. فأكثر اللحظات التي تتوتر فيها النساء عندما يشعرها الآخر بكونها مميزة ولكن مختلفة وغير قابلة للاندماج لكونها ذات صفات شاذة عن القاعدة. وتكون النتيجة أن تظل في ركن التبرير الدائم لكونها مختلفة، أو أن ترفض النقاش بهذا الموضوع من الأساس معلنة أنها لن تتغير، وليتخذ هو قراره بأن يتصالح مع اختلافها أو لا.
إذًا إنه لشعور جيد أن تكوني مقبولة اجتماعيًا برغم كل اختلافاتك الجذرية التي تكونت من تجاربك ومخاوفك وجروحك. ليس هذا متعلقًا بكون الشخصية قوية أو ضعيفة، ولكن حتى من يهوون الاختلاف والخروج عن القطيع يصيبهم الإرهاق في بعض الوقت، ويرنون للحظات يقلمون فيها أظافرهم دون الخوف من صراع ما، قد يتعرضون له، يندمون خلاله على تقليم أظافرهم هذه.
إنه لمن الجميل ومما يعين على السلام النفسي أن نتصالح من وقت لآخر، كونه ليس من السيئ أن نكون متشابهين مع القطيع الراضي يا “أريثا”. وآسفة لكوني لم أفهمك طيلة هذا الوقت.