كان عمل والدي وما له من علاقة وثيقة بالكتب، سببًا كافيًا ومباشرًا لوقوعي في غرام وحب القراءة، وهو -بالإضافة لمجال عمله- قارئ نهم وله ذوق مميز ومتنوع في مكتبته الخاصة، إذ كان يجيد انتقاء القصص التي تناسب مرحلتي العمرية، بدءًا من ذات الرداء الأحمر وسنو وايت والأقزام السبعة، إلى أشعار فاروق جويدة وروايات إحسان عبد القدوس.
لقد أهدتني القراءة أجنحةً لأحلق فوق عدم ثقتي بنفسي وأنا بعد طفلة صغيرة، ورفقةً تلون أيام الوحدة بألوان قوس قزح في مراهقتي، وملجأً للاعتكاف حين تخبو روحي من روتين الحياة القاسي، وبلسمًا يطيب جروح الترك وفقد الأحبة، ومتعةً تختصر الأزمنة والأمكنة وأنا ممددة فوق أريكتي المفضلة أحتسي مشروبي الساخن، شيّدت وطنًا من أغلفة الكتب وطرقًا وأرصفة من صفحاته، وقوانين من فصوله وحدائق مزهرة من رائحة الطباعة، وتركت عقلي وقلبي ينشدان أهازيج الفرح باقتناء كتاب جديد.
تتداعى ذكريات الليالي الباردة حين كان يدثرني أبي بالأغطية الثقيلة ليحميني من لفحة برد ويروي “حدوتي” المفضلة إلى أن أغفو في النوم، والتي لا بد أن تحمل معنى من معاني الحق والخير وطاعة الله، سرده الناعم وقدرته على إيصال ما يرنو إليه حفّزا رغبتي لإجادة القراءة وأنا بعد في سن صغيرة، فنضجت وأنا أجد من حياكة الأحلام دافعًا لاستمرار الحياة رغم إجهاضات الواقع المتكررة.
لكن عشق ألغاز “المغامرون الخمسة” استوطنني وتزامن حتى مع تعدد قراءاتي لنهاية المرحلة الإعدادية، كيف لمجموعة من الأصدقاء الصغار يشتركون في حل قضايا مستعصية من قتل وسرقة وجاسوسية، ويقودون الشرطة للقبض على المتهمين والخارجين على القانون؟ كيف يتحلون بقدرة على ترتيب المعلومات تقودهم لاستنتاجات دقيقة من خلال ما حصلوه من علم ودراسة رغم صغر أعمارهم؟
تساؤلات كثيرة تداهمني وأنا غارقة في تفاصيل اللغز، تتسارع دقات قلبي ويجف حلقي بسبب زيادة تدفق هرمون الأدرينالين في شراييني لانهماكي في حبكة الأحداث، أعتدل في جلستي أو أعيد وضع ساقي فوق الأخرى، خوفًا أو توترًا بما يمكن أن تنجبه الأحداث من معوقات أمام المغامرين الخمسة، وأنا أرتجف رعبًا أن يصيب أحدهم مكروه.
أقف حائرة أمام تلك المهارات التي يتمتع بها هؤلاء الخمسة، أين أنا منها؟ هل هي قدرات خارقة لمجموعة منتقاة من الأصدقاء؟ هل بإمكاني مضاهاتهم بمجموعة من أصدقائي لجعل العالم مكان أفضل؟
أحاول أن أرتفع بتوقعات مغايرة، وما هي فرص نجاحها للقبض على المتهمين، هل من الممكن أن أكون ضمن فريق المغامرون الخمسة؟ أي مهارة تنقصهم لأضيفها بانضمامي إلى فريقهم؟
في النهاية أستسلم لأحداث اللغز، وينجح المغامرون بالفوز في حل القضية، وأستمتع أنا بقراءة لغز مثير.
“محب” وأخته “نوسة” و”عاطف” وأخته “لوزة” و”توفيق” صديقهم، وهو أكبر منهم قليلاً، وقد أطلقوا عليه لقب “تختخ”، “زنجر” الكلب الأسود الذكي، والشاويش “فرقع” الذي يكره تدخل الأولاد في شؤونه، وقد منحوه هذا اللقب لمقولته الشهيرة لهم “فرقعوا من وجهي” والمفتش “سامي” صديقهم الذي يقف بجانبهم ويمد يد المساعدة في التوقيت المناسب، وتدور أغلب أحداث المغامرات في حي المعادي بالقاهرة. إنهم أبطال الألغاز البوليسية وأبطال طفولتي البريئة.
لا أستطيع الادّعاء بأني كنت من رواد معرض الكتاب الدولي من أجل الشراء والتعرف على ما يستجد في عالم الكتب، لقد كنت –ببساطة- أقوم بزيارة والدي فى أحد المعارض التي يشرف على إقامتها، وقضاء يوم برفقة صديقاتي بين أروقة الكتب ودور النشر، لقد كان أبي يزودني بما أحتاجه وأُلح عليه بشرائه دون الحاجة لانتظار المعرض كل عام.
طعم أبوية أبي يسكنني مع شراء كل كتاب جديد حتى يومي.
أعود بعد انقطاع دام سنوات لزيارة معرض الكتاب لغرس حب القراءة في وجدان ابنتيّ كما نجح والدي فى تنشئتي على أن الكتاب صديق باقٍ لا يخذل مقتنيه، مهما كانت تجربة الكتاب، سيعود نفع ما وخبرة تُكتسب بالممارسة والتعلم، ونحن نملك مهارة الغوص في أعماق المعرفة وفق شغفنا ورغبتنا في المزيد.