الله ألطف علي من أذي المحيض

701

دينا

5/5/2017

لا أنكر أبدًا في كل مرة يتطرق فيها الحديث عن أمي أنني ابنة لامرأة متفهمة واعية المدارك، وهبها الله من البنات أربعة وأدركت معهن أن الحمل الذي وضعه الله بحب على كتفيها شاق المسؤولية، قاسٍ في رحلته التي ستقطعها وهي قابضة على كلتا يديها بأربع جمرات حارقات لا تريد من الدنيا شيئَا سوى إحسان تربيتهن.

 

أصرت أمي أن تحاوطنا بصداقتها وثقتها التي حُرمت منها مع جدتي. فهكذا نحن النساء ننقل ما حُرمنا منه إلى بناتنا لتجنب تكرار التجربة والألم والوجع.

 

تحكي لنا دومًا عن جدتي التي كانت تعيش في عالم جاهل المعالم لا يؤمن بتلك العلاقة الوطيدة بين الأم والابنة، انطلاقًا من مبدأ “هتكبر وتعرف لوحدها”، فلم تحاورها عن بروز صدرها ودوران جسدها وتلك القطرات الحمراء التي استيقظت يومًا على وجودها، لم تناقشها حتى في تفاصيل ليلة زفافها، تركتها -كما تخبرنا- تستكشف الدنيا بنفس خائفة مضطربة لما قد تختبره وتراه، تبرر لها جهل الحقبة التي عاشتها والزمن القديم المنعدم الوعي، حتى مع تعليم جدتي الجيد في ذلك الوقت غير المنير.

 

لهذا أجلستني أمي ذات صباح حين بلغت الثانية عشر من عمري -كنت كبرى بناتها ومن تتوقع بلوغها قريبًا- وأخبرتني بكل شيء عن الدورة الشهرية. لم توارب في الحديث ولم تعطِها من المسميات ما يجعلها مشوشة مبهمة في عقلي. حدثتني بكل صدق وانفتاح عنها وشرحت لي ما عليّ فعله حين تأتيني، وأنه لا يوجد من مبرر لأي انزعاج أو “خضة” من رؤية الدم.

أهّلتني أمي نفسيًا للحدث الذي سيأتي، فيجعلني أخرى أكبر وأرق.. أنثى كاملة تبعد بخطوات عن تلك الطفلة الشقية جدًا التي كنتها.

 

وعندما جاءني “خراط الصبايا” فقط انتابني الفضول عن تلك البقع التي جعلتني في لحظة امرأة يقع عليها الكثير من النهي عن أفعال ظلت تلازمها طيلة طفولتها. فكما جميع الأمهات نبّهتني أمي لتصرفاتي وأفعالي وما عليّ فعله وما ليس عليّ فعله، وإن كانت الصديقة التي بداخلها لم تعنفني أو تنهرني، بل كانت تحدثني بود وحب ووعي، تجعلني بتفهمها أفهم ما تخبرني به في كل مرة آتي إليها حزينة من القيد على أفعالي الخرقاء الطفولية.

 

أدين لأمي بمساحة الصداقة بيننا، وبإنارة فهمي للكثير من الأمور التي كانت تؤمن أن سماعها منها هي أفضل ألف مرة من سماعها من صديقاتي، حتى لا يختلط عليّ الصحيح بالمغلوط، ولهذا سرت دربي وراء نصائحها وتنبيهاتها، وحتى إن لم يجانبها الصواب دائمًا كما اعتقدت.

 

ففي واحدة من جلساتنا السرية الهامسة، أخبرتني أمي أن “الفوطة الصحية” هي أذى كبير يحمل أذى أكبر، ليس على أحد غيري أن يراه، ولهذا فإن عليّ غسل وتنظيف كل واحدة منها ومعاملتها وكأنها مصنوعة من القماش، ثم أتخلص منها بعد ذلك بتقطيعها إلى قطع صغيرة في المرحاض.

 

جادلتها كثيرًا عن عدم اقتناع، فتلك الفوط حتمًا صُنعت لتسهيل الأمر علينا في النظافة والتخلص من دم المحيض، فكان مبررها أن عامل القمامة ليس عليه التأذِّي من رؤية حيضي الخاص، وليس هنا ذنب اقترفته عاملة النظافة بحمامات المدرسة أو الأماكن العامة لترى كل هذا الأذى.

وأن نظافتي الشخصية تحتِّم عليّ حمل فوطتي الخاصة الملوثة في كيس قمامة أسود في حقيبتي حتى عودتي إلى المنزل والتخلص منها، وكأنها ذنب أحاول مداراته عن أعين الجميع.

 

كنت عنيدة أحب النقاش والاقتناع، فلم تجد سبيلاً معي سوى أن تخبرني بأن الله سيجعلنا نبحث يوم القيامة عن ثلاثة أشياء نهمل في التخلص منها: قصاصات شعرنا، أظافرنا، ودماء حيضنا.

هكذا خُيل لي أن نساء الأرض سيأتين مهرولات يوم الدين باحثات عنها إن لم يتخلصن منها بشكل لائق، سيجرين يمينًا ويسارًا يبحثن بحزن عن خصلة شعر وظفر وفوطة صحية حتى يشملهن الله بعفوه ورحمته.

 

الوزر الذي هلعت من حمله حتى أقابل رب العالمين جعلني أطيعها، وأفكر جيدًا في تقزز عمال النظافة وحزن الله مني لعدم التخلص من آثار دورتي الشهرية.

 

طرحت اقتناعي أرضًا، فتاة في الثالثة عشر من عمرها لم تستطع أن تنفي بداخلها حرمة الفعل عند الله، لعنه للنساء بالنزف كل شهر، لا نقابله في الصلاة لنجاستنا، فقط ندعوه من قلوبنا حين نتطهر بأن يغسل ذنوبنا بالماء والبَرد.

 

تأصلت الفكرة مع مرور الوقت وصارت مبدأ وعقيدة أدافع عنها حين أخبر إحدى الصديقات بها، وأعطي لنفسي حق النصيحة والتحريم.

رغم أنني حين أختلي بفوطتي اليومية حين يأتي ميعاد نزفي، تنقلب معدتي قرفًا وتقززًا من رائحة الدم الصدئ الذي عليّ غسله من عليها، أضيق خُلقًا من ذلك الحمل الذي يجب تنظيفه. أكره كوني أنثى طائعة خائفة لتلك الدرجة.

 

وعندما أخبر أمي أنني لا أطيق تلك النظافة المفرطة تخبرني بهدوء “مش ده دمك؟! هتقرفي منه إزاي؟! على أيامنا مكانش فيه أولويز وكنا بنغسل الفوط القطن ونغليها ونعقمها، ومكناش بنقرف عشان ده منا”. فأسكت وأقتنع.

 

حتى جاء ذلك اليوم بعد زواجي بفترة وانسد صرف المنزل الذي أقطن فيه، وأخبرنا العامل بأن بجانب ما وجده من بقايا طعام وشعر كانت هناك قطع كثيرة من القطن متجمعة ومتكتلة تسد المصرف. قررت الصمت عن سري، وكان عليّ البحث عن طريقة أخرى للتخلص من أذاي الشهري.

وكأن الله كان رحيمًا بي، فأخبرتني أختي الصغرى بعدها أن صديقاتها التركيات -المتشددات دينيًا بالمناسبة- أخبرنها أنه لا يوجد ما يُقال عن أن الله لن يغفر لنا تخلصنا من الفوط الصحية في القمامة.

 

لحظة كاشفة تلك التي اختبرتها عندما جلست أبحث عن سند يخلف حدثيهن، ولم أجد سوى كل ما هو قاطع لينفي ما جعلتني أعتنقه أمي كل ذلك الوقت، راحة شديدة تلك التي أحسستها عندما قرأت عن تخثر الدم لتبقى فوطنا مجرد قطع من القطن بني اللون الذي يختلط مع الكثير من الأشياء في مكبات القمامة العملاقة.

 

كففت عن تلك العادة بعد أن أيقنت أن الله ألطف عليّ من أن يجعلني أهرول وراء دمي الذي جعله من طبيعتي كأنثى من خَلقه، الله ألطف عليّ يا أمي من أن يجعلني آثمة لأنني أضعت أثر دورتي الشهرية في مكب القمامة.

الله ألطف عليّ من أن تنقلب معدتي ويصفر وجهي من التنظيف المستمر اللا متناهٍ لقطع من القطن الدامي. الله ألطف عليّ يا أمي من أذى محيضي.

 

 

المقالة السابقةالحيض في الثقافات المختلفة بين النجاسة والتقديس
المقالة القادمةالدورة الشهرية وعالم الآنسات الذي لم يناسبني

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا