الدورة الشهرية وعالم الآنسات الذي لم يناسبني

362

كنت في منزلنا حين أتتني دورتي الشهرية للمرة الأولى، رأيت بقعة من الدماء على ملابسي، ذهبت مسرعةً وحدقت بها قائلةً “هل سأموت؟”، لتضحك أمي بهدوء وتخبرني أن هذا طبيعي جدًا، فقد بدأت دورتي الشهرية، وخطوت بقدميّ أول خطوة في عالم الأنوثة الرحب.

 

كانت أمي امرأةً مُتفهِمة بحق، أجلستني أمامها وأخبرتني بالتغيرات التي تحدث للفتاة حين تأتيها دورتها الشهرية، قالت لي إنني الآن قد أصبحت آنسة، وإن هذا الأمر سيتكرر حدوثه كل شهر، ولا داعٍ للخوف منه على الإطلاق، ولا داعٍ أيضًا لأن أُخبِر صديقاتي بالأمر، لأنها قد أتتني في سن مُبكِرة، وهو ما يمكن أن أُحسَد عليه!

 

بالطبع لم أستمع لكلامها، فما لبثت أن ذهبت للمدرسة في اليوم التالي حتى أخبرت صديقاتي الثلاث المقربات، ليدور النقاش بيننا حول الأمر، ولنتقاذف المعلومات عنه فيما بيننا، والتي حصلنا عليها من مصادر مختلفة، لكن ما لاحظته أن كل أمهاتنا قد جعلن من الأمر شيئًا جللاً، لكن بعضهن جعلنه خطرًا إلى حد مرعب.

 

في الواقع، كنت أظن في بادئ الأمر أن عالم الأنوثة الرحب هذا هو عالم وردي جدًا، سأدخله وستتناثر الورود وتتقافز الفراشات من حولي، فقد أصبحت آنسة، أنا لا أعرف ما الفارق الفظيع الذي حدث بين ليلة وضحاها لينقلني من تصنيفي طفلة في الصف الأول الإعدادي إلى آنسة في الصف الأول الإعدادي، لكنهم يقولون لي إنني قد أصبحت آنسة كبيرة، لكنني تفاجأت بأن الأمر لا يقف عند هذا الجانب الوردي فحسب، فانتقالي إلى كلمة آنسة يتطلب مني أن أكون أكثر حرصًا في تعاملي مع الآخرين، أن أنتبه أكثر إلى تصرفاتي وكلامي وأفعالي، خصوصًا مع تعاملي مع البُعبُع، أو الجنس الآخر.

 

بدأت الدورة الشهرية تُقيّدني ببعض التصرفات التي كان يجب عليّ كآنسة أن أتحلّى بها، لكني تغافلت عنها، ليس تمردًا على تقاليد وعادات المجتمع السامية جدًا جدًا لا سمح الله، وإنما بله! نعم، كنت ما زلت أحتفظ بالطفلة البلهاء الشقية داخلي، هي من كانت تُحركني، هي من كانت تدفعني إلى الاستمرار في اللعب في الفسحة مع أقراني من الذكور والقفز والـ”تنطيط” والجري على السلالم، وهو ما أوقعني في مشكلات كثيرة كنت في غنى عنها، لكني حين أذكرها الآن أضحك بملء فمي، فلولاها لما كانت حياتي قد اتخذت المنحى الذي جعل شخصيتي ما هي عليه الآن.

 

بدأت أولى متاعبي في المدرسة مع “مستر أ”، مدرس الإنجليزية الذي كرهت بسببه الإنجليزية والدراسة والمدرسة وحياتي كلها، كان “مستر أ” يرى أنني فتاة قد خطت عالم الآنسات لذا يجب أن أجلس مضمومة الساقين في الفصل، يجب أن أتحلى بالحياء والوقار والأدب، أن أخفض الصوت، وأن تحمر وجنتاي من الخجل حين أصافح أحد زملائي، يجب أن تتغير ملابسي خارج المدرسة، من الجيب شورت إلى التنانير الطويلة و”المكسي”، يجب أن أكف عن الجري في الفسحة، وعن التقافز على السلم، ويجب حتمًا أن أبدأ بارتداء صدرية، لأنه لا يصح أن أستمر في هذه الحياة الهوجاء الممتلئة بالبراءة واللعب والتقافز على السلم.

 

بالطبع لم أكن على علم بكل هذه الملاحظات المهمة جدًا من منظور مدرس عن طالبته المتفوقة بالصف الإعدادي، إنما أخبرتني إياها أمي وأبي بعد أن عدت إلى منزلنا عصر الأربعاء المشؤوم، أربعاء زيارة أولياء الأمور، حيث أخبرهما “مستر أ” بالأمر دون أي حرج، ومن وقتها فُرِض عليّ ارتداء التنورة الطويلة إذا ذهبت للمدرسة في أي مناسبة خارج إطار الدارسة، والتعامل بشيء من الحدود مع الجنس الآخر، وغيرها من الضوابط التي لم أر فيها إلا تقييدًا للعب. فلم تكن مشكلتي مع التنورة الطويلة سوى أنها ستعيقني عن الجري، ولم تكن مشكلتي مع عدم مخاطبتي لأقراني من الذكور سوى أنني سأفقد أصدقاء أعزاء على قلبي جدًا.

 

كرهت “مستر أ” بكل طاقة “آنسة” في الـ12 من عمرها على الكُره، ولم أشعر بالراحة إلا بعد مغادرته للمدرسة، كان يوم عيد بالنسبة لي وبالنسبة للفصل بأكمله حقيقةً، لكننا لم نكد نخلص منه حتى أتانا “مستر ع”، مدرس اللغة العربية، والذي لم يكن أقل سوءًا منه.

 

كان “مستر ع” مثالاً واضحًا لمن يتدخلون فيما لا يعنيهم، خصوصًا حين يتعلق الأمر بفتيات الفصل، كان يُصر على حشر نفسه فيما نعده نحن “الآنسات” خطوطًا حمراء كما علّمنا الكبار، فإذا تأخرت إحدانا في الحمام، كان يُرسل زميلتها في إثرها لتأخذها إلى دكتورة المدرسة لأن تأخيرها بالضرورة -في نظره- ليس له معنى سوى أن دورتها الشهرية قد باغتتها، ولا أعرف لماذا كان يتناسى فكرة أنها لربما تكون محصورة فعلاً!

 

انتقلت لعنة “الآنسة” معي خارج المدرسة، واستمرت لمدة ليست بقصيرة في الكلية، أصبحت الدورة الشهرية تفرض عليّ عدم ارتداء الأبيض أو البيج أو الألوان الفاتحة بشكل عام، وكلما راودتني نفسي عن هذا، أذكر وقوفي في حمام المدرسة بعد أن أحدثت الدورة بقعة كبيرة يراها أي كفيف في يونيفورم المدرسة الـ”أوف وايت”، صارخةً “شوفولي حل”، ليبحث الجميع في قسم المفقودات عن أي شيء داكن يُلبَس، لكن الأمر لم يكن بهذه السهولة، فإيجادهم لشيء يناسب مقاسي كان صعبًا.. صعبًا جدًا، أصبحت أتجنب السير بخطى متسارعة، أتجنب القفز، اللعب، الرياضة، المرح بشكل عام، أنتبه لكل خطوة أخطوها، لكل كلمة أتفوّه بها مع الجنس الآخر.

 

لم أتجاوز الأمر إلا حين فكرت في الأمر مليًا، لأجده سخيفًا للغاية! كففت عن النظر إلى الدورة الشهرية باعتبارها إعاقة، لأنها ليست شيئًا يمنع من الحياة أو المرح أو الكلام مع الآخرين، ورفضت عالم الآنسات، لكن هذه المرة رفضته تمردًا، رفضته لأنه ببساطة لم يناسبني.

المقالة السابقةالله ألطف علي من أذي المحيض
المقالة القادمة“لا تخبري ماما”.. انتصار الشر الذي ينكره العالم
صحفية وكاتبة مصرية.

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا