“لا تخبري ماما”.. انتصار الشر الذي ينكره العالم

484

انجي ابراهيم

تم نشرة في 08/05/2017

وقت القراءة : 5 دقيقة

يقول الشاعر الإنجليزي ويليام بليك “أن تسامح عدوًا أسهل من أن تسامح صديقًا”، ولذلك تطلب الأمر من “توني ماجواير” الكثير من الجهد حتى تسامح أباها، تطلبت منها مسامحته ما يفوق قدرتها على التحمل، بل كان الأقسى على الإطلاق ألا يعبأ كثيرًا بما حدث، وأن يترك لها إرثًا من القهر لم تستطع روايتها التي تخطت مبيعاتها ستة ملايين نسخة عبر العالم أن تشفيه، أخذ منها أبوها كل شيء، لم يترك لها سوى الخذلان، وذكرى لعينة تطاردها في كل مرة تتذكر فيها أنها لا يمكن أن تصبح أمًا، ولن تعطيها الدنيا الفرصة الكاملة للشفاء من الخيانة.

 

الطفلة التي لم تكن طفلة على الإطلاق

في روايتها “لا تخبري ماما” تحكي “توني ماجواير” قصة حياتها، يمكننا أن نطلق عليها مأساة، فأن تقرأ أن طفلة تتعرض للاغتصاب شبه اليومي من أبيها، وأن تعرف أن هذا حدث حقًا وليس خيالاً من المؤلفة التي أصرت أن تنقل واقعًا كانت تعيشه، تلك القسوة التي تحتل كيان القُرَّاء عندما يعرفون ما حدث، تجعلهم يتساءلون، بمَ شعرت الصغيرة الضئيلة التي بدأت مأساتها منذ عمر السادسة.

 

تحكي الكاتبة عن علاقة أبويها المعقدة، زوج يصغر زوجته بخمس سنوات، كل منهما من ثقافة مختلفة، حيث إن الأم إنجليزية والأب آيرلندي، يعود الأب من خدمته في الجيش ويستقر مع الأسرة، تحكي “ماجواير” عن الأحلام الأسطورية التي نسجتها الأم قبل عودة الأب، كيف سيعيشون سعداء، كيف ستشتري بيت أحلامها ليضم الأسرة الصغيرة، قصة حب معقدة جدًا، تخاف فيها الأم طوال الوقت أن تفقد حب الزوج الذي يصغرها، خوف جعلها تصمت عن نوبات غضبه غير المبررة طوال الوقت، تصمت عن تلكئه في تحقيق أحلامها، تصمت عن شخصيته الغريبة، وتصمت عما هو أخطر.

 

كانت الطفلة التي لم تفهم بعد أبعاد العلاقة المعقدة تستشعر غرابة في أبيها العائد، ليست غربة عن أب لم تعرفه كثيرًا، كانت الغرابة تكمن في ذهن الصغيرة عن شخصيتين مختلفتين للأب، الحنون الذي يدللها هي وأمها، والغاضب الذي يجعل الصمت يخيم على المنزل المتداعي أحيانًا كثيرة، حتى كشف الأب عن اللعبة/ السر، الذي لا يمكنها أن تخبر به أحدًا، كان الأب يعتدي على صغيرته في كل الأوقات التي يمكنه اختلاسها، حتى وصل به الأمر أن يحدد موعدًا أسبوعيًا للنزهة مع ابنته وحدهما، وبدلاً من أن يريها عالمًا يمكن للصغار فيه أن يمرحوا برفقة آبائهم، أراها عالمًا مظلمًا، ترقد فيه الطفلة على أرض الحظيرة حتى ينتهي منها أبوها، ثم يبتسم لها ويؤكد أن ما حدث هو سر بينهما و”لا تخبري ماما”.

 

في الثلث الأول من الرواية تُحدِّثنا “توني” بنفسية الطفلة، الطفلة التي لا تفقه بعد ما يحدث ولكنها تستشعره تمامًا، ترينا الأمور من منظور الصغار، الذين لا يهمهم أن يمتلكوا منزلاً جميلاً أو أن يتعلموا تعليمًا جيدًا، كل ما يريدونه هو الفهم فقط.

 

تُحلل الكاتبة تصرفاتها حينما كانت صغيرة، تستخدم كثيرًا ألفاظًا تُعبِّر عن عدم فهمها الكامل لما كان يفعل أبوها، وكأنها تدرأ عن نفسها التهمة التي التصقت بها، تؤكد في كل صفحة تقريبًا أنها لم تكن تقصد أن يتمادى أبوها في اللعبة/ السر، وترجو القراء أن يتفهموا ضعفها الصغير.

 

الجدران الهشة التي لا تحمي أحدًا

كانت “توني” الطفلة تؤمن أنها فقدت جدار الحماية الأكبر (أباها) بعد كل ما عرَّضها له، ولكنها عاشت تنتظر أن تعرف أمها بما يحدث، كانت تؤمن أن أمها ستعرف وستحميها، كانت طوال ثماني سنوات تنتظر أن تفتح أمها عينيها وترى ما يحدث، وكانت الأم في كل مرة تدير وجهها للناحية الأخرى وتأمل فقط في أن يحبها زوجها أكثر.

 

تعرف “توني” أن أمها كانت تعلم ما يحدث، كانت تقرأ في عينيها أنها تعرف، لم تستطع الطفلة أن تُعبِّر، وقد كان التهديد الأخطر “لا تخبري ماما” يطن في رأسها دائمًا، ولكن ماما عندما تعرف سوف تحميها، وبابا لن يؤذيها لأنها لن تخبر أمها، سوف تشعر أمها بكل شيء وينتهي العذاب اليومي، ولكن الأم اختارت ألا تعرف.

 

استمرت فصول المأساة حتى حملت توني من أبيها، دون حتى أن تعرف ما هو الحمل بالضبط، وقد اكتملت فصول المأساة تمامًا عندما اتهمتها أمها أنها كانت تعرف أنها “تفعل” ذلك مع أبيها.

 

الوصم ليس أسوأ ما يمكن أن يحدث

تحكي “ماجواير” عما تعرضت له بعد أن حوكم أبوها وأجهضت الجنين، كيف رفضتها عائلة أبيها واتهمتها بالفجور، وكيف شعرت ذات ثلاثة عشر عامًا أنها منبوذة للأبد. في هذا الجزء من الكتاب تنقل “ماجواير” صورة قاتمة للمجتمع الإنجليزي والآيرلندي على حد سواء، فالمتوقع أنها تعيش بين بلدين منفتحين ثقافيًا، ولكن الواقع يختلف كثيرًا.

 

عبر حكيها لتفاصيل ما تعرضت له من طبيبها الذي كان يزدريها منذ اللحظة الأولى التي عرف فيها بالمأساة، تخبرنا الكاتبة أن المجتمعات الغربية أيضًا لم تكن متفهمة جدًا لتلك الكارثة في ستينيات القرن المنصرم، لم يعاملها المجتمع المتحضر برحمة، كانت “توني ماجواير” تفضح عفن المجتمع بطبقاته الراقية عبر حكيها المسترسل دون أن تتحدث عن ذلك صراحة.

 

لم تتهم المجتمع بأي شيء، لم تعترض، لا وقتها ولا حينما قررت أن تكتب الرواية، هي فقط نقلت واقعًا حدث بكل تفاصيله، وتركت للقارئ الحكم على المجتمع الإنجليزي الذي استكمل القضاء على المراهقة التعسة.

 

وبالتوازي في نفس التوقيت تنتقل بنا للمجتمع الآيرلندي، الذي لفظها هو الآخر دون هوادة. تحكي تفاصيل طردها من بيت عائلة أبيها وتنقل لنا السباب الذي تعرضت له بالتفصيل، مرة أخرى تصدمنا تصرفات المجتمع الذي من المفترض أن يكون متحضرًا، والذي خدعها مرة أخرى بكونها ليس لها مكانًا فيه.

 

ولكن عقل المراهقة يأبى أن يقبل المأساة، فتنتقل هي وأمها لبلدة جديدة وتحكي عن أيام آمنة عاشتها مع أمها، التي ظنت أنها عادت لها بالكامل، استطاعت أن تُقصي أبيها من الذاكرة، ورغم الفقر الذي لازمها هي وأمها، ورغم معرفتها أن الإجهاض الذي تعرضت له كان من القسوة لدرجة أنه أتلف رحمها ولن تستطيع أن تكون أمًا أبدًا، إلا أن نفسية المراهقة التي تتوق إلى حياة طبيعية جعلتها تحاول البدء من جديد.

 

حتى جاء اليوم الذي عادت فيه من العمل، لترى أمها تجلس على الأرض بين يدي أبيها وتنظر إليه بِوَلَه، وتصرخ في ابنتها أن “لقد عاد بابا”.

 

عندما سامحت “توني” الحياة التي خذلتها من جديد

الرواية كلها فلاش باك، يبدأ عندما تستدعي المستشفى، الذي ترقد فيه أمها المحتضرة جراء السرطان ابنتها، فتذهب “توني” لتعتني بأمها في أيامها الأخيرة، تحاول أن توقِّع عقدًا جديدًا مع الحياة، ينقصه فقط أن تعترف أمها أنها قتلت ابنتها ببطء، ترفض الأم أن تعترف رغم الموت المحلق حولها، ولا تحاول “توني” أن تستنطقها، ثم تصل الشجاعة بها إلى أقصى الدرجات عندما تقابل أباها في المستشفى، وتتبادل معه كلمتين، ولكنه يأبى إلا أن يخذلها في اليوم التالي مباشرة، لتتأكد “توني” وقتها أن أمها باعتها بثمن بخس، ولم تكسب شيئًا جراء خسارتها لابنتها الوحيدة.

 

الجميل في مرثية “ماجواير” أنها لم تذكر إطلاقًا كيف تعافت، وكيف انتقلت من مراهقة تعمل في مقهى صغير لتتحول إلى الكاتبة الأكثر مبيعًا، لم تكن تؤرخ لشخصها، وإنما كانت تؤرخ لكارثة تعاني منها المجتمعات يوميًا دون أن يرف لها جفن، لم تذكر مثلاً نوع العلاج النفسي الذي تلقته رغم أنها ألمحت إليه في كثير من مواضع الرواية، ولكنها حافظت على الهدف الأهم.. وهو الصراخ.

 

كانت سيرة “توني ماجواير” عبارة عن صرخة عالية في وجه المجتمع الذي خذلها طفلة وقتلها مراهقة. في الواقع لم تكن مرثية “ماجواير” تخص المجتمع الإنجليزي وحده أو المجتمع الآيرلندي على وجه الخصوص، وإنما كانت مرثية للطفولة بوجه عام، فماذا يمكن أن تستنتجه من قراءة تلك الأحداث التي وقعت في الجزء المتحضر من العالم، عندما تقارنها بما يحدث في مجتمعاتنا يوميًا؟ قطعًا هناك كارثة مسكوت عنها، وشر ينتصر دومًا ويرقص منتشيًا على جثث الصغيرات في ظل إنكار دائم ممن حولهن.

 

الرواية قاسية جدًا، وقسوتها تكمن في أنها وقائع حياة حقيقية، مرثية ترويها “توني ماجواير” التي حاولت منذ سن ست سنوات أن تنتصر لنفسها، ونجحت فقط عندما صرخت روايتها المُصنَّفة ضمن الأكثر مبيعًا. حاولت الكاتبة أن تكسب أي شيء من الظلام التي عاشته، وإذا كان تعاطف القراء هو الشيء الوحيد الذي اكتسبته من رحلتها المهلكة، فقد ربحت.

المقالة السابقةالدورة الشهرية وعالم الآنسات الذي لم يناسبني
المقالة القادمةكيف تواجهين وحش البريود الشرير
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا