الأكل في بيت جدو

646

رمضان اللي فات ده كنت كل يوم بعد ما الفجر يأذن أقول لجوزي بهزار “مكلتش رز.. مكلتش رز”، تقريبًا كنت بردد الجملة دي كل يوم، ما عدا يوم واحد في أواخر رمضان كده، قلتله “أنا ممكن أدفع نص عمري دلوقتي حالاً وأسمع المؤذن في الجامع بيقول ارفع المييييييييييياه وأنا نايمة تحت البطانية السودا الخشنة وستو بتشربني بسرعة قبل ما الفجر يأذن”.

 

الظاهر البني آدم كل ما بيكبر كل ما الحنين بيكبر معاه، رغم إن طول الوقت أيامنا بيتراكم فيها أحداث حلوة، إلا إن لذة التمني إنك ترجع لورا وإنت عارف إن ده مستحيل بيبقالها طعم خاص، أنا مكنتش فاهمة يعني إيه حنين، لحد وقت قريب أوي، يمكن من سنة بس فهمت قد إيه الشعور ده موجع بس جميل، اجترار الذكريات والتشبث بيها، بقيت طول الوقت بجتر تفاصيل راحت وبحن لأماكن وأشخاص مبقوش موجودين، أو موجودين ومش متاحين ليّ في اللحظة اللي بحس فيها بالحنين الجارف ده، قد إيه أصلاً تعبير “حنين جارف” مناسب أوي، نوبات الحنين دي فعلاً بتجرف أي حاجة في سكتها وتوقف الدنيا للحظات.

 

أنا مثلاً دلوقتي بحن جدًا لبيت جدو الله يرحمه، يا الله على كم السكينة اللي كانت في البيت الصغير أوي اللي في الدور الأرضي اللي مفيهوش شبابيك! كم السكينة اللي في البوتجاز الأخضر ماركة “نصر” اللي جدو كان بيعملنا عليه الأكل في أواخر سنين عمره، لأن ستو كانت تعبانة، ومكانش بيوافق إن ماما هي اللي تعمل الأكل، وكان بيقولها “إنتي تيجي عندي هنا ترتاحي وتطلبي اللي إنتي عايزاه.. إنتي كفاية إنك بتطبخي في بيتك”، أختي لحد ما كبرت كانت فاكرة إن جدو ده غني أوي عشان كان بيعملنا أكل حلو أوي طول ما إحنا قاعدين هناك، والأكل كان لازم يبقى أصناف مختلفة وكتير، والفطار والعشا لازم ميكونوش تقليديين، وكان بيقعد يسألنا طول اليوم “تاكلي إيه يا حبيبتي”، وينفذ طلباتنا كأنها أوامر.

 

جدو مكانش غني خالص على فكرة، جدو كان عامل في شركة الغزل والنسيج، الله يرحمه، أنا لسه فاكرة الطبق الميلامين الأصفر، كان بيبقى مليان سمك مقلي، وبيجيبه بالظبط المقاس اللي بنحبه، مش أي حاجة يلاقيها في السوق وخلاص، وفاكرة الجمبري الصغير المتشوح اللي كان بيجيبهولنا الصبح نفطر بيه مع الفول، فاكرة العيش باللحمة (اللي هو الحواوشي) اللي كان بيروح يعمله في الفرن بتاع العيش الأسمر، ويجيبه معاه في الشبكة الحمرا، أنا كل مرة بعمل فيها عيش باللحمة في البيت ببقى عايزة أغرس ورقة على وش العجين، هو كان بيغرس ورقة لحمة صغيرة خالص على أرغفة معينة، عشان يعلمها إن دي اللي جواها في التتبيلة طماطم وشطة، بس أنا مبغرسش الورقة، أولاً لأني بشتري اللحمة المفرومة في أكياس مش في ورق لحمة أحمر، ثانيًا عشان حتى لو عملت كده عمره ما هيبقى شبه العيش بتاع جدو الله يرحمه.

 

أنا فاكرة كمان ستو وهي قالبة البيت تمامًا عشان بتعملنا كسكسي وقادوسية (بيسموها في القاهرة مخروطة) والعجن والتشكيل، حسب ذاكرتي إنها كانت بتقعد ساعات طويلة أوي تقوم بالمهمة دي، معرفش فعلاً الأكلة دي كانت بتاخد وقت ولا خيال الأطفال هو اللي بيهول كل حاجة، فاكرة كمان إن زمان ماما مكانش بيبقى عندها وقت تعمل العصبان (بيسموه في القاهرة ممبار) وستو كانت تعملنا حلة وتبعتها مع جدو أو تديها لماما وإحنا مروحين، حلة ألمونيوم من بتوع زمان، أنا لسه فاكرة شكل الحلة لحد النهارده.

 

أنا لسه فاكرة حاجات كتير ليها علاقة بالبيت الصغير الضيق الواسع أوي ده، فاكرة إن خالتي (كانت مراهقة وإحنا صغيرين) كانت بتتعشى بيض مسلوق وشيبسي، وكانت بتعملنا الأكلة دي أنا وأختي تقريبًا كل يوم لما بنكون هناك، ومهما حاولت آكل دلوقتي بيض مسلوق وشيبسي عمرهم ما بيكونوا نفس الطعم أبدًا.. أبدًا.

 

جدو كان بيجيبلنا تين شوكي كمان، بيجيب صندوق كبير، وستو تقعد تنضفه كله، وكل مرة تتخانق معاه عشان جايبلها كل الكمية دي، وهو كل مرة بيكررها، وفي مرة جدو جه عندنا البيت وجابلنا صندوق تين شوكي، بس وصل بدري أوي وكان يوم أجازة ماما من الشغل، خاف يخبط علينا عشان ميقلقهاش من النوم، قعد ع السلم ينضف التين الشوكي لحد ما صحينا لوحدنا.

 

أنا فاكرة تفاصيل كتير عن الحياة في بيت جدو زمان، بس أكتر ذكريات فاكراها هي اللي مرتبطة بالأكل، عشان كان بيبقى مبذول فيها جهد حقيقي، ورغبة صادقة أوي إنه يسعدنا، الله يرحمك يا جدو.

 

كل حاجة في البيت ده كانت حلوة، والحنين للحظات دي مبينتهيش، مش هنسى أي أكلة أكلتها هناك، وبيفضل الحنين يكبر يكبر، وكل يوم صور جديدة بتضاف للألبوم القديم ده، وكل ما ببعد عن فترات في حياتي كل ما بتوحشني وبحس لحنين ليها، وبحاول أخلق ذكريات وأكلات عشان ييجي حد تاني بعدي بسنين كتير يفتكر الأكلات بتاعتي ويترحم عليّ.

 

المقالة السابقةاسمي آيات جودت وابنتي تعاني من حساسية الطعام
المقالة القادمةلذة الانتقام بطعم “أم علي”
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا