اسمي آيات جودت وابنتي تعاني من حساسية الطعام

1403

تم نشرة في 08/05/2016

 

أتجول في ممرات “الماركت” الكبيرة، أنظر إلى الرفوف بحسرة وأمل في نفس الوقت، أمسك المنتجات، أعلم جيدًا ما المكتوب عليها، ولكني بالرغم من ذلك أقلبها لأقرأ المكتوب عليها للمرة الألف، لعلني مخطئة، ولعلهم أضافوا شيئًا جديدًا.

 

صباح الخير، أو مساؤه، أنا آيات جودت، أم لطفلة تعاني من حساسية البروتين البقري المعروف باسم حساسية الألبان، اكتشفنا إصابتها بالحساسية من سنة، بعد هذه المعرفة علاقتنا بالأكل تغيرت 180 درجة عن علاقتنا به قبلما نكتشفها. أصبحنا يجب أن نسأل عن مكونات الطعام قبل السؤال عن أي أمر آخر، لا نقبل الإجابات المائعة أو “أصل دي سر الخلطة”، ولم يعد سهلاً أن نغامر بالذهاب إلى مكان جديد لا نعرف ما نوع الطعام المقدم، وأصبح ضيقنا من معيشتنا بمصر مضاعفة، حيث الغش التجاري والفساد وانعدام الضمير.

 

لم يقتصر الأمر على ذلك، بل أصبحنا نحفظ المكونات الخاصة بالمنتجات المعلبة والمحفوظة، ونعلم جيدًا معنى كلمة لبن والـ500 بديل لهذه الكلمة بالعربية والإنجليزية، نفرح بشدة عندما لا نجد كلمة لبن أو أي من بدائلها على المكونات، ولكن تصدمنا في النهاية جملة مثل “قد يحتوي على بقايا من آثار الحليب” أو “هذا المنتج صنع على خط منتجات تحتوي على ألبان ومكسرات” أو “may contain milk”.

 

اسمي آيات جودت، أم لطفلة تعاني من حساسية البروتين البقري المعروف باسم حساسية الألبان، علاقتي بالطبخ تغيرت تمامًا بعد اكتشافنا بأمر الحساسية، ظللت فترة طويلة أخبز العيش بنفسي رغم التعب الذي كان يسببه لي، أصبحت أعوضها بالكيك منزلي الصنع، بدلاً من حلويات الشارع والحلوانية، وأصبحت خبيرة في بدائل المكونات كي تتناسب مع حساسيتها، وأستخدم كريمة جوز الهند بدلاً من الكريم شانتيه العادي، وأصنّع صوص الشوكولاتة في المنزل من الكاكاو، أفكر في سناك جديد ومختلف يتناسب مع متطلباتها، قد يبدو الأمر الآن بسيطًا، إلا أنه لم يكن دومًا بهذه البساطة.

 

مرض الحساسية هو من الأمراض غير المعروف لها سبب، يرجعها البعض إلى الأغذية الفاسدة وتلوث الهواء والمنتجات المسرطنة، وآخرون يلقون باللوم على العوامل الوراثية، وبالطبع هناك الرأي القائل إنها من علامات يوم القيامة، ولكن في الحقيقة كل هذه أسباب غير علمية، والسبب الحقيقي وراءها ما يزال مجهولاً، ولكن تظل هناك بعض المعلومات البسيطة بشأن أمراض الحساسية، مثل أنها تصيب الأطفال أكثر من البالغين.

 

للحساسية الكثير من الأعراض التي تتشابه وتختلف في نفس الوقت، فالحساسية للمواد الغذائية قائمة كبيرة للغاية، قرأتُ مؤخرًا كتاب وصفات للكيك والكب كيك لمصابي الحساسية، تقول الكاتبة في البداية إنها أصيبت بمجموعة من الأعراض فشل الأطباء في توصيف مرضها، ولكن طبيبًا اقترح أنها ربما تكون حساسية، وسألها إن كانت تعرضت لأي صدمات مؤخرًا، فقالت إنها فقدت والدتها وتركت صديقها، مما سبب لها صدمة بالتأكيد، قال لها إن لديها حساسية من مكونات غذائية وظهرت عندما أصيبت بالصدمة، وأكدت التحاليل المعملية كلامه.

 

فما هي الحساسية؟ الحساسية هي ردة فعل عنيفة من الجهاز المناعي ضد بعض الأطعمة، وتظهر هذه الردة خلال فترة قصيرة من تناول الشخص للمنتجات المسببة للحساسية، وهي غير ما تصوره لنا الميديا، بأن يأكل شخص ما القليل من الفول السوداني فيتورم نصف وجهه، فالحساسية تظهر في عدة أعراض مثل مشكلات في الجهاز الهضمي أو التنفسي أو أكزيما في الجلد أو بقع جلدية مختلفة. كذلك فإن مسببات الحساسية كثيرة للغاية، أشهرها البيض والسمك والجلوتين (القمح) والمكسرات والفراولة والمانجو والموز والشوكولاتة، ولكن هناك أيضًا حساسية من بياض البيض فقط، وحساسية من اللحوم والبروتين البقري وأخرى من الصويا وغيرها من الدجاج، والكثير والكثير من الحساسية التي لم يسمع بها أغلبنا من قبل.

 

الناس في مصر للأسف لا يعترفون بوجود أنواع من الحساسية غير المشهورة، فقط الأنواع الشهيرة، لأن هذا ما وجدنا عليه آباؤنا، أما فكرة تقبّل وجود نوع آخر من الحساسية فهم يشعرونك بأنك إنسان مُترَف ومرفه ولديك وقت كافٍ كي تتحسس من أمور غريبة.

 

علاقتنا بالأكل تغيرت بشكل جذري، وبنتي الصغيرة ذكرياتها بدأت بطريقة غريبة جدًا مع الأكل، فهي لا تعلم ما هي اللحمة، ولكنها تأثرت بشدة بمنع الشوكولاتة واللبن والجبن، فهي ككل الأطفال تحب تناول الشوكولاتة البيضاء من الكشك، وكانت لا تتناول سوى ساندوتش الجبنة على الفطار والعشاء، فتغيير هذه العادات فجأة سبّب لنا مشكلة كبيرة، ما هو بديل الجبن؟!

 

مرضى الحساسية وأهلهم في مصر يعانون أشد المعاناة، لأن الاختلاف في مصر يُعد جريمة يعاقب عليها المجتمع وأصحاب المحال التجارية، فكونك ممنوعًا من شرب اللبن العادي وقررت أن تشرب لبن جوز هند أو لبن لوز أو شوفان لا سمح الله، فهو يعني أنك ستضطر أن تدفع نقودًا أضعافًا مضاعفة لما كنت تدفعه مقابل اللبن العادي، ولو مصاب بحساسية الجلوتين فعليك أن تدفع كل ما تملك في شوفان خالٍ من الجلوتين أو دقيق أرز، هذا إن وجدتهما بالطبع ولم تبحث عنهما في كل محل تدخله.

 

الخروج مع طفلة مصابة بالحساسية أصبح شيئًا مرهقًا بشدة، فيجب عليّ تحضير سناك مخصوص حتى لا تأكل شيئًا مجهول المكونات أو غير واثقة بها، أدخل مطبخ صديقتي لأفتش في مطبخها وأعلم ما الذي ستسخدمه في الأكل، أمسك بكل المنتجات المنطقية واللا منطقية كي أقرأ المكونات المكتوبة عليها، فمن كان يتوقع أن مكعبات شوربة الدجاج تحتوي على اللبن؟! أصبحت أكره أن تتصل بي الحضانة لتخبرني أن هناك عيد ميلاد طفل أو حفلاً بمناسبة أي عفريت، فما يعنيه هذا من سعادة للأطفال، أترجمه مباشرة إلى وقوفي في المطبخ لعمل حلوى للصغيرة بدل تلك التي سيأكلها الأطفال الآخرين أمامها.

تعرفي على: كيفية اختيار الحضانة المناسبة للطفل

حسنًا.. قلت في السطور الأولى إن الأمر لم يكن سهلاً دائمًا، هذا منطقي، فهل لهذه الحساسية أي جانب إيجابي على الإطلاق؟ في الواقع نعم، فكطفلة محبة للحلويات كان عليّ أن أصنع الحلويات في المنزل، مما ضمن جودة الخامات والنظافة للأكل الذي تأكله، ولكنني أصبت بالتعب الشديد والإرهاق والملل أيضًا، فقررت تعويض السكريات بالسكر الموجود بشكل طبيعي في الفاكهة، لم ينجح الأمر بالطبع في البداية، ولكن بالتدريج لأنه لا يوجد أمامها خيارات متعددة، قبلت بالأمر الواقع، وأصبح مشهدًا طبيعيًا أن أُخرج من حقيبتها موزًا أو خوخًا مقطعًا وعنبًا، ولا بأس بالقليل من البلح وربما الزبيب والمكسرات أيضًا، ليتحول سناك ابنتي إلى وجبة مفيدة تساعدها في النمو.

 

كذلك على المستوى الشخصي، وكمحبة لعمل الحلويات وتحديدًا للكوكيز التي أراها لا تصلح إلا بالزبدة النيوزلندي الطبيعية، فقد تأثرت كثيرًا بانقطاع هذا المنتج عن منزلنا، ولكنني سعدت بنفسي حقًا عندما استطعت أن أصنع لها عدة حلويات مختلفة وشهية حازت الإعجاب، وكذلك قمت بعمل تورتة عيد ميلادها على شكل سبونج بوب الأثير لديها، لتتذكره حتى وقتنا هذا رغم مرور أكثر من 7 أشهر على هذه الذكرى.

 

ربما تُعد تجربتي هيّنة بعض الشيء، ففي النهاية أنا أجيد التعامل مع المطبخ، حساسية ابنتي متوسطة وليست خطيرة، كما أنها تعاني من نوع  حساسية واحد فقط، بينما في مصر والعالم الكثير من الأسر التي تعاني بحق، فربما هم لا يملكون المال الكافي لشراء البدائل التي دائمًا ما تكون أغلى، أو ربما طفلهم يعاني من حساسية شديدة كتلك الفتاة التي أصيبت بالاختناق في عيد الأضحى بسبب رائحة اللحم والذبح في الشوارع، أو ربما طفلهم يعاني من حساسية متعددة، وهم كثرة بالمناسبة، فيعانون من الجلوتين والمكسرات أو البيض والألبان والجلوتين.

 

الحساسية أمر ليس بهيّن ولا يجب أخذه باستخفاف، فبعض الحالات توفيت بسبب الحساسية الشديدة، الحساسية مرض يجب معاملته بجدية، فهو لا يغيّر من نظام أكل فقط، بل يغيّر من نظام حياتك وطريقة نظرتك للأمور، وفي المرة المقبلة عندما تقابلون أمًا أصيب طفلها بالحساسية، لا تظهروا الأسف الشديد أو العلم أكثر منها، فهي تستطيع أن تحضّر دكتوراه في هذا الشأن، ولكن رجاء أظهروا القليل من التفهم والاحترام للمجهود الكبير الذي تقوم به هذه الأم من أجل الحفاظ على حياة طفلها، فهو أمر لا يعلم مشقته إلا أم لطفل مريض مثلها.

المقالة السابقةأجمل ذكريات التسعينات، ذكريات الزمن الجميل
المقالة القادمةالأكل في بيت جدو

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا